محمد الباز يكتب: الرفاق حائرون.. عن لعبة عبدالحليم حافظ وأحمد زكى الأبدية
◄ لا أصدق حليم إلا عندما يغنى ولا أصدق زكى إلا عندما يمثل
◄ نسجنا من خيوط صدقهما قصص حبنا وأحلام عمرنا وخطط مستقبلنا
◄ كل منهما رغم استبداد التراب الذى طواهما ظل باقيًا معنا
لو حكينا ياحبيبى.. نبتدى منين الحكاية
من السهل علىّ أن أجمع بينهما فى جملة مفيدة طويلة.
فكل منهما من مواليد الشرقية، وكل منهما كان يتيمًا عاندته الحياة صغيرًا وشرب من أحزانها حتى اكتفى.
وكل منهما سار فى طريق شاق حتى انتزع من الدنيا اعترافًا مدويًا بموهبته.
وكل منهما عانى من المرض، فقد افترسهما افتراسًا بلا رحمة، وكل منهما سلم قياده للموت فى شهر مارس.
تأملها أنت.
راجع كل ما قالوه عن «الخالدين.. حليم وزكى».
لن يضيف اليتم الذى جمع بينهما شيئًا، ولن تكتملا أسطورتاهما بموتهما فى مارس، الشهر الذى يبشروننا بأنه يأتى إلينا بروائح الفل والياسمين، فإذا به يقتحمنا بلا رحمة بالعواصف والتراب.
لن يرفعهما الحزن الساكن فى عيونهما إلى مرتبة الصابرين الكبار على أوجاع الحياة.. ولن تشفع لهما الوحدة التى انفردت بهما، ففى كل مساء عندما كان يأتى الليل عليهما يتركهما بسطوته دون رفاق، وهما اللذين كان يتحلق حولهما الأصدقاء بلا عدد.. لكن ماذا كان يفعل كل منهما عندما يأوى إلى فراشه البارد دون ونس؟
وحدهما يعرفان ما كان يجرى.
ووحدهما رحلا وهما يحملان سرهما الكبير دون إفصاح.
نجح عبدالحليم حافظ وأحمد زكى كما لم ينجح أحد.
هل قلت لكم، منذ قليل، أنهما «خالدان»؟
حسنًا لقد فعلت.
هذا هو سرهما إذن!
يمكننا أن نوحد بينهما فى المصير، وهو التشابه الوحيد الذى يمكن أن يروق لى، ولا تعترض طريقى بما قلته بأن لعبة المتشابهات لا تستهوينى، فقواعد الحياة ليست مطلقة، وقواعدى أنا أيضًا.
المصير واحد.
كل منهما، رغم استبداد التراب الذى طواهما، ظل باقيًا معنا. وأعتقد أنهما سيبقيان طويلًا، ليس لأنهما قررا ذلك فقط، ولكن لأننا من نحبهما ونحن من قرر، فلا أحد ينسى، ولا أحد يستطيع أن يتجاهل، إذ كيف لنا أن نغفل من وضعنا لهما فى وجداننا مقعدين لا يغادرانهما أبدًا.
وستعرف بعد رحيل العمر بأنك كنت تطارد حيط دخان
كان أحمد زكى ممثلًا متوحشًا.. بينما كان عبدالحليم ممثلًا متواضعًا.
كان
عبدالحليم حافظ مطربًا مستبدًا.. بينما كان أحمد زكى مؤديًا، نحب غناءه
فقط لأننا نحبه.. ومن يحب يغفر ويسامح ويقبل ممن يحبه أى شىء، حتى لو كان
صوتًا «متحشرجًا» وأداءً مفتعلًا مبالغًا فيه.
كان عبدالحليم حريصًا على شهرته ونجوميته فحرم نفسه تقريبًا من كل شىء.. بينما كان أحمد زكى يتعامل مع الحياة بشبق، لم يحرم نفسه من شىء حتى لو خسر جمهوره كله فى ضربة واحدة.
كان عبدالحليم حافظ دبلوماسيًا.. بينما كان أحمد زكى «فاجومى» من طراز رفيع، لا يخفى مشاعره ولا يرى من حوله إذا قرر أن يتحدث بصراحة، وكثيرًا ما كان يتحدث بصراحة.
كان عبدالحليم حافظ
تاجرًا «شاطرًا»، علمه عبدالوهاب كيف يستثمر نجاحه، فيحوله إلى ثروة..
بينما كان أحمد زكى مفلسًا عظيمًا، يبحث عن المال لينفقه على نفسه وعلى من
يحيطون به.
لم يكن أحد منهما فيلسوفًا أبدًا.. ولا أدرى لماذا أرهقا نفسيهما فى البحث عن معانٍ ليضعا تجربتهما فيها، فالتجربة وحدها تكفى.
لا أصدق عبدالحليم حافظ إلا عندما يغنى.. ولا أصدق أحمد زكى إلا عندما يمثل.
ورغم أننى أسرح مع عبدالحليم حافظ وهو يغنى «وستعرف بعد رحيل العمر بأنك كنت تطارد خيط دخان»، إلا أننى لا أصدقه فى هذه أبدًا، فلم يكن عمره خيط دخان أبدًا.. قد يكون أراد هو أن يمنح نفسه مسحة فلسفية، لكنها لا تناسبه أبدًا.
حاول أحمد فى كلامه، الذى كان قليلًا، أن يراوغ دنياه، أن يبدو مفكرًا ومنظرًا فذًا، قال ما قال عن الحياة والموت والمرأة والأصدقاء.. لكننى لم أصدقه أبدًا.. كنت أصدق عينيه فقط عندما يصوبهما إلىّ وأنا أشاهد أفلامه.. نظراته لا ينافسه فيها أحد، كان يقول كل شىء دون أن يتحدث بأى شىء.
احذف كل ما قالاه.
قف فقط أمام ما غناه عبدالحليم وما مثله أحمد زكى، ستجد نفسك مكتفيًا، لا تريد منهما شيئًا.. إذ ما الذى يمكن أن تريده بعد كل هذه المتعة المطلقة التى بلا حدود ولا آفاق لها، لا فى الأرض ولا فى السماء.
حلو وكداب.. ليه صدقتك؟
فى كل مرة أستمع إلى هذه الأغنية تخطفنى حالتها تمامًا.
عبدالحليم حافظ يقف فى مواجهة فاتن حمامة، التى هى فتاة أحلام عابرة العصور والأجيال، يغنى لها، فى عينيها «حلو وكداب ليه صدقتك.. الحق علىّ إنى طاوعتك..كداب.. ليه.. ليه صدقتك».
لم أكن أعرف لذلك سرًا، ربما كانت
حالة المرح التى تحاصرنى وأنا فى حضرة عبدالحليم وفاتن، وربما لأن
عبدالحليم كان يغنى لنفسه ربما أكثر مما يغنى لحبيبة خدعته.
لا تقفز بعينيك إلى ما قلته لك، منذ قليل، من أنهما كان الأكثر صدقًا، الأول عندما يغنى والثانى عندما يمثل، لن تمسك بى متلبسًا بالتناقض أبدًا.
أنا لا أتحدث عنهما الآن، بل أتحدث عنَّا.. أنا وأنت.
وفى كل مرة يمثل فيها أحمد زكى تعتقد أنه يمثلك،
وهو قوى وهو ضعيف، وهو مليونير وهو بواب، وهو ضابط وهو مجرم، وهو مستقر وهو
مشرد، وهو مطارِد وهو مطارَد، وهو سجين وهو هارب، وهو متحقق وهو ضائع، وهو
مستبد وهو متسامح، وهو يقاوم وهو يستسلم، وهو يبكى وهو يضحك.