رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشيخ على محمود.. إمام المنشدين فى عصره



الشيخ على محمود «١٨٧٨- ١٩٤٦»، شيخ وقارئ قرآن مصرى وسيد القراء وإمام المنشدين فى عصره، وهو صاحب مدرسة عريقة فى التلاوة والإنشاد تتلمذ فيها كل من جاءوا بعده من القراء والمنشدين.
من مواليد سنة ١٨٧٨ فى حارة «درب الحجازى» كفر الزغارى، قسم الجمالية، حى الحسين، القاهرة، لأسرة على قدر من اليسر والثراء، وقد أصيب وهو طفل فى حادث وكانت النتيجة إصابة عينيه الاثنتين بالعمى، التحق بالكُتّاب وحفظ القرآن الكريم ودرس علومه صغيرًا، حيث حفظ القرآن على يد الشيخ أبوهاشم الشبراوى بكُتّاب مسجد فاطمة أم الغلام بالجمالية، ثم جوده وأخذ قراءاته على يد الشيخ مبروك حسنين، ثم درس الفقه على يد الشيخ عبدالقادر المزنى. ذاع صيته بعد ذلك قارئًا كبيرًا، وقرأ فى مسجد الحسين فكان قارئه الأشهر، وعلا شأنه وصار حديث العامة والخاصة. درس بعد ذلك الموسيقى على يد الشيخ إبراهيم المغربى، وعرف ضروب التلحين والعزف وحفظ الموشحات، كما درسها أيضًا على يد شيخ أرباب المغانى محمد عبدالرحيم المسلوب، وحيد عصره وفريد دهره فى الموسيقى. كما أخذ تطورات الموسيقى على يد الشيخ عثمان الموصلى، وهو تركى استفاد منه فى الاطلاع على الموسيقى التركية وخصائصها. بعد كل هذه الدراسات الثرية، إضافة إلى موهبته الذهبية، صار الشيخ على محمود أحد أشهر أعلام مصر قارئًا ومنشدًا ومطربًا، وصار قارئ مسجد الإمام الحسين الأساسى، وبلغ من عبقريته أنه كان يؤذن للجمعة فى الحسين كل أسبوع أذانًا على مقام موسيقى لا يكرره إلا بعد سنة، كما صار منشد مصر الأول الذى لا يُعلى عليه فى تطوير وابتكار الأساليب والأنغام والجوابات.
من أشهر النوابغ الذين اكتشفهم الشيخ على محمود القارئ العملاق الشيخ محمد رفعت، الذى استمع إليه الشيخ على محمود مرة سنة ١٩١٨ يقرأ وتنبأ له بمستقبل باهر، وبكى عندما عرف أنه ضرير، واستفاد الشيخ رفعت فى بداياته كثيرًا من الشيخ على محمود، وصار سيد قراء مصر وصوت الإسلام الصادح فيما بعد، والشيخ العبقرى طه الفشنى الذى كان عضوًا فى فريق الشيخ على محمود، واستفاد من خبرته الشىء العظيم، حتى صار سيد فن الإنشاد بعد الشيخ على محمود، والشيخ كامل يوسف البهتيمى القارئ والمنشد المعروف، والشيخ محمد الفيومى، وكان أحد أعضاء بطانته، والشيخ عبدالسميع بيومى، وكان كذلك أحد أعضاء فريقه، إمام الملحنين الشيخ زكريا أحمد الذى كان عضوًا فى فريقه، وتنبأ له الشيخ على محمود بمستقبل باهر فى عالم الموسيقى، ومد الله فى عمر الشيخ على حتى شاهد تلميذه سيد ملحنى زمانه، والموسيقار محمد عبدالوهاب، وقد تعلم عليه الكثير من فنون الموسيقى، وسيدة الغناء العربى أم كلثوم، والمطربة أسمهان.
رحل الشيخ على محمود إلى جوار ربه فى الحادى والعشرين من ديسمبر عام ١٩٤٦ تاركًا عددًا غير كثير من التسجيلات التى تعد تحفًا فنية رائعة، فقد ترك الشيخ على محمود عددًا محدودًا من التسجيلات، وهى: التسجيلات القرآنية الموجودة فى مكتبة الإذاعة المصرية، والأناشيد والموشحات والأغانى، وهى: أشرق فيومك ساطع بسام، أدخل على قلبى المسرة والفرح، خليانى ولوعتى وغرامى، السعد أقبل، هتف الطير بتحلال الصبا، أهلًا بغزال، أنعم بوصلك، سل يا أخا البدر، يا نسيم الصبا، فيا جيرة الشعب اليمانى، طلع البدر علينا، شكوت لخاله لما جفانى، وبعض التواشيح الأخرى بعضها مطبوع على شرائط شركة «صوت القاهرة». ونشرت جريدة الأهرام نبأ وفاة الشيخ فى صفحة الوفيات، وقد نعاه محمد الحفنى الطرزى باشا، رئيس شرف رابطة القراء وجميع أعضائها، وكتب فى نعى الرابطة «أن أعضاء رابطة القراء ينعون بمزيد من الأسف الأستاذ الشيخ على محمود الرئيس الإدارى، الذى اكتسب بدينه وخلقه محبة القلوب، فبفقده فقدت الرابطة بل الأمة المصرية عَلَمًا خفاقًا وبلبلًا صداحًا».
هكذا يرحل الإنسان وتبقى سيرته، وربما أعماله الخالدة التى حفرها فى سجل التاريخ، لتملأ الدنيا جمالًا وروعة، يتعلم منها الأجيال على مر السنوات، فتظل تراثًا خالدًا يلمع باسم صاحبه. قال فيه الأديب الراحل محمد فهمى عبداللطيف: «كان الشّيخ على محمود سيّدَ المنشدين على الذكر، والمغنين للموالد والمدائح النبوية، وكأنى بهذا الرجل كان يجمع فى أوتار صوته كل آلات الطّرب.. فإذا شاء جرى به فى نغمة العود أو الكمان، أو شدا به شدو الكروان.. وقد حباه الله لينًا فى الصوت، وامتدادًا فى النَّفَس».
هو قارئ القرآن الكريم الذى استمد منه علمه الدينى وتذوقه للموسيقى وولعه بها لدرجة جعلته يتعلم علم النغمات والمقامات الموسيقية ويسير فى دروبها ليعرف أسرارها من مبدعيه المعروفين آنذاك، وعلى رأسهم الشيخ الجليل محمد عبدالرحيم المسلوب؛ الذى عمل على تحرير الموسيقى من قوالبها التركية والعثمانية وصبغها بصبغة مصرية فريدة مثلت النواة لإبداع مصرى ذى نكهة خاصة فى عالم الموسيقى؛ ليصبح الشيخ على محمود صاحب مدرسة فريدة فى فن الموشحات.
وإذا كان الشيخ على محمود هو إمام المنشدين وعمدتهم، فهو أيضًا أعظم من رفع الأذان بين الشيوخ المعاصرين، حيث كان الأذان وما يتبعه من التسابيح والاستغاثات التى تتلى قبيل صلاة الفجر فى الحرم الحسينى وراء امتلاء منطقة الحسين وما حولها يوميا للاستماع إليه، وقد بلغ من عظمة الأداء وجمال الصوت وخشوعه، ما جعل الشيخ عبدالعزيز البشرى يصفه بقوله: «إن صوت الشيخ على محمود من أسباب تعطيل حركة المرور فى الفضاء، لأن الطير السارح فى سماء الله لا يستطيع أن يتحرك إذا سمع صوت الشيخ».
وفى ٣ يوليو ١٩٣٩، جاءت التلاوة الأولى للشيخ على محمود كقارئ معتمد ببرامج الإذاعة المصرية فى السابعة وخمس عشرة دقيقة، حسبما ذكرت جريدة الأهرام فى نفس اليوم، وتضمنت التلاوة التى جاءت من بداية المصحف «فاتحة الكتاب» والربعين الأول والثانى من سورة «البقرة»، وبلغ زمن تلك التلاوة أربعين دقيقة، واعتمدت الإذاعة منذ ذلك اليوم الشيخ على محمود قارئًا للقرآن مساء يوم الإثنين من كل أسبوع، لتتوالى بعد ذلك، وبانتظام لم تقطعه، مشاركات الشيخ فى الاحتفالات الخاصة بالمناسبات الدينية، ومنها حفل أقيم بدار الأوبرا الملكية بالقاهرة فى ذكرى عقد قران الملك فاروق والملكة فريدة، وافتتح الشيخ على محمود وقائع الحفل بعد عزف السلام الملكى بتلاوة قرآنية بلغ زمنها ربع الساعة، وهو الذى أنشد عقد قران ولى عهد إيران وشقيقة الملك فاروق. وإضافة إلى الأعمال الخالدة السابق ذكرها، ظهر الشيخ على محمود بصوته وصورته فى بعض الأفلام المصرية القديمة وهو يتلو القرآن الكريم ويؤذن فى بعض مشاهدها، كان أولها فيلم «أولاد مصر» عام ١٩٣٣ من إنتاج وإخراج أحمد المشرقى، بالاشتراك مع فكرى كامل وحنان رفعت ودولت محسن وإبراهيم حسنين وغيرهم، وكان يتلو القرآن فى أحد المشاهد، وتكرر الأمر فى فيلم «الحل الأخير» عام ١٩٣٧ للمخرج عبدالفتاح حسن، وبطولة سليمان نجيب وسراج منير وعباس فارس وراقية إبراهيم وأنور وجدى.