رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

دروس وعبر من ماضى الرؤساء الأمريكيين «1-2»



فى محاضرة لها بعنوان «ما نستخلصه من ماضى الرؤساء»، ذكرت الكاتبة دوريس كيرنس غودوين، أن الأشخاص الأكثر سعادة وعمقًا فى عيش الحياة هم أولئك الذين يستطيعون أن يحققوا التوازن الداخلى بين ثلاثة معطيات «العمل.. الحب.. اللعب»، وأن تغليب أحد المعطيات الثلاثة على حساب الآخرين سوف يدفع الإنسان إلى التعاسة المطلقة فى بقية عمره، ولكن العيش بصورة متوازنة سوف يجعل الاكتفاء والشعور بالحياة أمرًا ممكنًا.. بل سيعود بالصفاء والسكون على ذلك الشخص جراء ذلك.
وقدمت الكاتبة- التى قضت معظم حياتها فى دراسة السيرة الذاتية لعدد من الرؤساء الأمريكيين- نموذجين لتوضيح هذه الفكرة، وهما حياة كل من أبراهام لنكولن، وليندون جونسون.
فحياة أبراهام لنكولن تتبلور حول مفهوم أن الطموح الكبير جدًا هو أمرٌ جيد، فقد كان يملك طموحًا غير محدود، ولم يكن هذا الطموح هدفه منصبًا أو سلطة أو شهرة أو ثروة، فقد كان طموحه أن ينجز شيئًا مفيدًا حقًا فى هذه الحياة كى يستطيع أن يجعل العالم الذى يعيش فيه أفضل ولو بصورة بسيطة.
وحتى فى صغره كان لنكولن يملك أحلامًا بطولية كبيرة، فقد حاول أن يتهرب من عمله الصعب فى المزرعة التى ولد فيها، ولم تكن هنالك أى مدرسة تقبل به، فقد قضى فترات فى عدة مدارس لا تتجاوز الأسابيع، ولكنه كان يقرأ الكتب فى كل أوقات فراغه.
وعن تأثير الأدب والخيال على حياة لنكولن، تقول مؤرخة الرؤساء: كان لنكولن وهو صغير يعتقد أنه لن يستطيع الذهاب إلى أوروبا فذهب إلى إنجلترا مع ملوك روايات «شكسبير»، وسافر إلى البرتغال وإسبانيا مع شعر «لورد بيرون»، فقد مكنه الأدب من تغيير محيطه وتجاوزه وتعرض لعدة خسارات فى بداية حياته الأولى.
وقد تأثر وهو فى التاسعة من عمره بكلمات والدته عندما كانت على فراش الموت «أبراهام.. سوف أذهب بعيدًا.. ولن أعود أبدًا!» فبات مهووسًا بالفكرة المستخلصة من تلك الجملة، أى: «أننا من التراب إلى التراب.. لا شىء بعد الموت»، ولكن بعدما كبر فى العمر طور خلاصة جديدة.. استسقاها من الشخصيات الإغريقية القديمة ومن الثقافات الأخرى، تنص على أنه: إذا استطاع الإنسان أن يقوم بشىء مفيد حقًا فى هذه الحياة، فإنه سوف يُخلد فى ذاكرة الآخرين، فأخلاقك وسمعتك سوف تمدان فى عمرك مدة أطول من عمر جسدك، وذلك الطموح «لعمل شىء يغير العالم بصورة مفيدة»، هو ما صار محور حياة لنكولن، فحمله طموحه الكبير خارج ظلام طفولته التى كانت تحيط به ودفعه لأن يعلم ويطور نفسه بنفسه، وأن يتجاوز الأزمات السياسية والأيام العصيبة.
وبذلك الطموح.. فاجأ الجميع بفوزه بالرئاسة أمام ثلاثة مرشحين أكثر خبرة منه وأكثر علمًا وأكثر شعبية، ففاز بالانتخابات العامة، وفاجأ الشعب الأمريكى أكثر عندما قام بتعيين منافسيه الثلاثة على الرئاسة فى فريقه الرئاسى، وسأله البعض لماذا قمت بهذا؟، فقال: «إن هؤلاء الثلاثة هم أقوى وأقدر ٣ رجال فى الدولة، والدولة فى حال حرجة وأنا أحتاجهم فى صفى».
وفى عام ١٨٦٣ عندما تم توقيع ميثاق تحرير العبيد، قال: أعتقد أنه بهذا الميثاق ستغدو أغلى آمالى حقيقة.
لقد كان لنكولن يملك عدة مهارات على عدة أصعدة فى السياسة والعلم والثقافة والمهارات العاطفية، وقد كان لامعًا فى تعاطفه واستيعابه للأفكار المختلفة عن أفكاره، واستطاع التغلب على تلك المشاعر السيئة التى نتجت فى محيطه المُعادى، وشارك الجميع بنجاحاته، وتحمل مسئولية فشل بعض خططه وأخطاء مرءوسيه، واعترف بأخطائه وتعلم منها، لم يتأثر بالشكاوى التافهة ولم يتملكه الغرور بسبب الأضواء التى نالها فى رئاسته، وكان بارعًا فى سرد حججه المقنعة. وفى سرد القصص كان يستخدم المصطلحات الجميلة كما لو أن شكسبير وشعره الذى أحبه فى صغره قد تجسد به وأصبح يتحدث على لسانه.
فى مقابلة مع الكاتب الروسى الكبير، ليو تولستوى، لصحيفة نيويورك فى بداية عام ١٩٠٠، قال إن ما جعل أبراهام لنكولن عظيمًا ليس كونه جنرال حرب مثل نابليون، ولا كونه رجل دولة مثل فريدريك العظيم، بل إن عظمته جاءت من اتساق شخصيته ووازعه الأخلاقى الذى رافقه طيلة حياته.