رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الصعود المفاجئ والانحدار السريع «١٠»




المشردون القدامى يستوطنون أسفل الأشجار الضخمة العتيقة، حيث ندفن قططنا وكلابنا، ما من طفل من أطفال العمارات المحيطة بالحديقة إلا وله قطة أو كلب مدفون فى علبة كارتون، مشهد جنائزى لا أنسى تفاصيله، المشهد الجنائزى يتكون عادة من الطفل الباكى الحزين وبواب العمارة أو السائق، أو سايس الجراج، وهو يحمل جاروفًا بيد وباليد الأخرى يحمل صندوقًا كرتونيًا ملفوفًا بورق كوريشة بنفسجى غامق أو أحمر، فى الغالب لا يدخل الطفل الحديقة، يكتفى بتوجيه التعليمات لمن يحفر الحفرة بأن يحفر أكثر وأكثر، حتى يقنعه الرجل الذى يسخر فى سره من الأطفال الذين يذهبون بقططهم وكلابهم للبيطرى أكثر مما يذهب هو بأطفاله للطبيب، والذين تأكل قططهم «الدراى فوود» وتقضى حاجتها فى رمل معطر، وقد يصادف أن ينزل أحدهم من أتوبيس المدرسة فيعبر الشارع ذا الاتجاه الواحد ويقف على سور الحديقة، يتذكر لولو أو ريكى، ما يسمح له والداه بتربيته من قطط أو عصافير أو كلاب.
لا أحد من سكان الحى يتنزه فى الحديقة، من يدخلها نعرف أنه غريب، هم فى الغالب أهالى أو المصاحبون لمرضى يترددون على العيادة الخارجية لكلية طب الأسنان أو مركز السموم، المصاحبون لمرضى «قصر العينى» لديهم حديقة القصر القديم كى يلتقطوا أنفاسهم، لديهم حديقة أم كلثوم، الحديقة المجاورة لكلية السياحة والفنادق ولنادى مستشارى مجلس الدولة، حيث ينتشر بعض أكشاك لبيع المياه المعدنية والغازية والعصائر وأنواع البسكويت، التى تناسب جيوب المطحونين والمصاحبين لمرضى المنيل التخصصى وقصر الفرنساوى الجديد، من يحضرون ويدفعون الآلاف كرسم دخول المريض لا يجلسون فى الحدائق العامة على النجيل يضربون أخماسًا فى أسداس يرزحون تحت وطأة الفقر والمرض.
المرضى الفقراء يصحبون معهم أعدادًا كبيرة من أقاربهم، كل يجامل بما يملك، الوقت، أو ربما هذه اللمة توحى بتقاسم الألم فتخف وطأته، المرض والوفاة والميلاد حدث لديهم يأخذون له إجازة واستعدادًا، هذه الطقوس أهم من الحياة نفسها، عند ولادة سلوى اصطحبت نجاة والسائق فقط واتصلت بعد أن اطمأننت عليها على والدتى وهند فى المنيا، واتصلت بوالدتها فى حلوان، قضيت الليلة الأولى معها ونمت على الكنبة الموازية لسرير نجاة، ونامت حماتى فى الصالون المرافق لجناح الولادة وعندما وصلت شقيقتى ووالدتى كنا قد غادرنا مستشفى الشرطة.
يتجمعون فى مجموعات صغيرة تعرف غربتها من جلبابها الفلاحى أو من العبايات السوداء لنسائها يتجمعون بطول شارع السرايا الذى يمتد من نهاية كوبرى الجامعة ومسجد صلاح الدين وشارع عبدالعزيز آل سعود ويمتد مارًا بشارع المنيل ثم شارع متحف المنيل ثم سور قصر محمد على، أو السرايا التى حمل اسمها حتى يصل لكوبرى السرايا الذى يصل المنيل بالقاهرة وعلى استقامته يوجد كوبرى السيدة الذى يعبر خط المترو الواصل بين حلوان والمرج.
يجتمعون أمام الكشكين الموجودين بجوار محطة الأتوبيس لطلب مكالمة تليفونية، ومن مزايا هذين الكشكين توافر خط المحافظات، وعندما ظهرت خطوط التليفون ذات العملة لم تستطع أن تسحب البساط من الكشكين، فقد كانت صاحبة الكشكين وهى الحاجة لواحظ تجلس فى أحدهما وتجلس ابنتها المطلقة فى الكشك الثانى، تطلبان الأرقام المطلوبة من الورقة التى تمدها اليد الجافة المشققة، وكانت تكفيهما مئونة تجميع الخط والرد بألو حتى يرد الشخص المطلوب، فى الغالب تكون المكالمة للتبليغ بأن المريض اتحجز أو أنه يحتاج نقل دم، ويحتاجون أن يأتى المزيد من الأقارب للتبرع بالدم، ومع اختفاء التليفون الأرضى وبداية ظهور المحمول احتفظت لواحظ وكشكاها بميزاتهما وأصبحت تسعيرة المحمول بالدقيقة، وبعد أن صار المحمول فى كل يد، ولم تعد هناك حاجة لعبارة «ممكن أستخدم الموبيل» انتقلت التجارة لكروت الشحن وتحويل الأرصدة والشحن عن طريق فورى وفودافون، لم يستغرق الأمر سنوات طويلة حتى أصبح كل أذن يلتصق بها موبيل والأصابع تتحرك على الشاشة التتش.
كل هذه السنوات لم يتغير شىء فى هذه التجمعات المشتركة الصغيرة، فى أصواتها العالية وحركة خطواتها العشوائية المرتبكة، فى أملها وحيرتها ويأسها بقيت غريبة، تختفى مع غروب الشمس وانتهاء موعد الزيارة، لكنها تترك آثارها، تجمعات من القمامة الرخيصة، أكياس الشيبسى وعلب البسكويت أو علب الفويل البيضاء وبقايا طعام موائد الرحمن القريبة من الميدان، أكوام من الأرز والخضار المطبوخ ما كل هذا الاستهلاك الفارغ؟ اختلف معنى الفقر، لم يعد نقص الرغيف فقرًا أو الصدقة حبة فاكهة، هناك من يحتاج للتعليم والأدوية والأهم الإحساس بالنظافة والجمال.