رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشيخ أحمد الرزيقى.. عبقرى التلاوة «3-3»


يقول الشيخ الرزيقى: «لى مع المرحوم الشيخ عبدالباسط ذكريات كثيرة جدًا: سافرت معه إلى معظم دول العالم. وكان بمثابة التابع لى ولست أنا التابع له. وذلك من حسن خلقه- فكان مهذبًا ومتواضعًا وعلى خلق.

فعلى سبيل المثال سافرت معه إلى جنوب إفريقيا، وكانت مشاكل العنصرية هناك لا حد لها، ويصعب السفر والإقامة بها آنذاك. ولما وصلنا جوهانسبرج وجدنا جماهير غفيرة فى استقبالنا، خاصة من البيض، وكثيرًا من رجال الصحافة. فقلت للمرحوم الشيخ عبدالباسط: خلى بالك من نفسك، فقال الحافظ هو الله وجلسنا بصالة كبار الزوار بالمطار.

وأقبلت علينا سيدة صحفية فقال لها الشيخ عبدالباسط تحدثى مع زميلى الشيخ الرزيقى.. أنا تابع له، فتحدثت معى وقلت لها: «لقد جئنا إلى هنا فى مهمة دينية هى تلاوة القرآن الكريم». فقالت لى: هل رأيت عنصرية هنا؟ قلت لها: إننى جئت إلى هنا لأقرأ القرآن، ولست باحثًا عن العنصرية ولا غيرها.. فجاء صحفى يبدو أنه عنصرى وقال: «أنا أعرف أنكما شخصيتان مهمتان. فهل تعلمان ما أُعد لكما من تأمين على حياتكما قبل أن تأتيا إلى هنا؟».. فقلت له: «يا أخى لسنا فى حاجة إلى تأمين لأننا جئنا لقضاء بعض الأيام الطيبة بين أشقائنا من المسلمين هنا على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وصفاتهم، ونحن بمثابة الآباء لهم، فهل يحتاج الأب إلى من يحميه من أبنائه؟»، كل هذا فى حديث تليفزيونى، فلما سمع الناس ذلك قابلونا ونحن متجهون إلى المسجد وقالوا: ونحن حراس عليكما.

وفى نيجيريا نزلنا عند رجل ثرى جدًا بأحد الفنادق فتركنا وقال هذا الجرس تستخدمانه عند الحاجة ولما جعنا ضغطت على الجرس فجاء رجل طوله متران ونصف المتر، ولا يفقه كلمة عربية واحدة ولا حتى إنجليزية، فأشرت له بإشارات عرف منها أننا نتضور جوعًا، فأحضر كتابًا به قوائم للطعام بالإنجليزى، وزاد الموقف صعوبة فقال لى الشيخ عبدالباسط: اصرفه فضحكت وقلت له: كيف أصرفه أقرأ عليه قرآنًا يعنى؟ وضحكنا وبعد فترة من الوقت جاءنا الطعام».

لم يترك الشيخ الرزيقى بلدًا عربيًا ولا دولة إسلامية ولا جالية إسلامية فى دولة أجنبية ولا جزيرة فى عرض بحر إلا وذهب إلى المسلمين فى شهر رمضان ليمتعهم بما أفاء الله عليه من نعمة حفظ كتاب الله والحافظ عليه بتلاوته بما يرضى الله.

وسر تدفق الدعوات الخاصة على الشيخ الرزيقى من الدول الشقيقة لإحياء شهر رمضان والمناسبات الدينية المختلفة هو أنه يراعى الله فى تلاوته ويتقيه ويؤدى أداءً محكمًا ليرضى الرب قبل إرضاء العبد، ولا نظن أن ما يرضى الخالق لا يرضى المخلوق، وأن ما يرضى الحق جلت قدرته يجعل العباد فى شوق إلى هذا الأداء الملتزم الموزون بكل دقة.

من المواقف الطريفة التى لا ينساها الشيخ الرزيقى:

حياة الشيخ أحمد الرزيقى حافلة بالذكريات المختلفة عبر رحلة ممتدة عبر ما يقرب من أربعين عامًا قضاها فى رحاب هدى القرآن ونوره، وخاصة الذكريات والمواقف مع مثله العليا من العلماء والفقهاء والأدباء.. يقول الشيخ الرزيقى: «وأثناء اختبارى كقارئ بلجنة اختبار القراء بالإذاعة والتى كان الشيخ الغزالى- رحمه الله- أحد أعضائها.. طلب منى فضيلته أن أقرأ سورة التغابن تجويدًا.

فقلت لفضيلته: لم أعود نفسى على تجويدها، ولكننى أجيد أداءها ترتيلًا. فأصر وألح علىّ لأجودها، ولكننى كنت أكثر إصرارًا، فقال له زميله باللجنة المرحوم الدكتور عبدالله ماضى يا شيخ محمد الشيخ أحمد الرزيقى صادق وهذه تحسب له.. فأود أن تجعله يقرأها مرتلًا.. وكان الشيخ محمد الغزالى سمحًا ما دام الأمر لا يؤثر على أحكام الدين والقرآن فقال لى: رتلها يا شيخ أحمد فرتلت سورة التغابن وسعد الشيخ الغزالى بالأداء لدرجة أنه شكرنى وأثنى على أدائى المحكم».

ودارت الأيام ومرت مر السحاب، صنع الله الذى أتقن كل شىء، وبعد أن أصبحت قارئًا مشهورًا بالإذاعات العالمية جاءتنى دعوة لإحياء شهر رمضان بدولة قطر عام ١٩٨٥م وشرفت بصحبة الشيخ محمد الغزالى الذى دعى لإلقاء دروس العلم.. وفى ليلة بدر وكان مقررًا أن أبدأ الاحتفال بتلاوة القرآن ويقوم فضيلة الشيخ الغزالى بالتعليق على ما أتلوه.. فطلب منى أن أقرأ من سورة آل عمران: « ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة» فقلت له إننى سأقرأ «التغابن» فابتسم ابتسامة عريضة، ولأنه صاحب مكانة جليلة وأخلاق كريمة قال اقرأ آيتين من آل عمران ثم اقرأ التغابن حتى نتحدث فى المناسبة ثم أقوم بتفسير ما تقرأه من التغابن.. لم أقصد من وراء قولى هذا لفضيلة الشيخ الغزالى إلا لأذكره فقط بما حدث بلجنة الاختبار.

ولن أنسى موقفًا حدث لى ببريطانيا فى مدينة «شفيلد»: وهذا الموقف مهم جدًا أذكره لبعض المدعين أنهم مسلمون وهم يقتلون الأبرياء ويهددون ضيوف مصر القادمين لرؤية حضارة مصر والاستمتاع بجوها الساحر!! نزلت فى منزل الشيخ زهران إمام المسلمين هناك وكنت أستيقظ متأخرًا بعد ما يخرج الشيخ زهران إلى عمله. ولأننى بمفردى بالمنزل. دق الجرس ففتحت الباب فوجدتهم مجموعة من الأطفال فقالوا لى صباح الخير بالإنجليزية ورديت التحية عليهم، ولم أعرف منهم ماذا يريدون، وكانت هناك سيدة ترقب الموقف من أمام منزلها فجاءت مسرعة لتعتذر لى وصرفتهم وانصرفت السيدة ومعها الأطفال، ونسيت ما حدث لأنه شىء عادى من وجهة نظرنا هنا... ولكن فى المساء فجأة دق جرس الباب ففتح الشيخ زهران، وقال لهم: ماذا تريدون؟ قالوا نريد الشيخ. قال لهم: لماذا؟ فقالوا لنشرح له ما حدث من الأطفال فى الصباح، ونعتذر له. وجلست مع الوفد الذى جاء تقديرًا واحترامًا لى، وقالوا لقد جاء الأطفال ظنّا منهم أن أبناء الشيخ زهران بالمنزل، لأن الأطفال هنا تعودوا على الخروج إلى الجناين ليتنزهوا، ولقضاء يوم السبت بالمنتزهات، وكذلك يوم الأحد والأطفال الذين حضروا إلى هنا وأزعجوك هم أعضاء إحدى جمعيات الأطفال، ونحن جميعًا المسئولون عن الجمعية، فجئنا ومعنا الأطفال حتى نعتذر لك عما بدر منهم، لأنك ضيف عزيز، ويجب أن نعمل على راحتك. فقلت فى نفسى ياليتنا فى مصر نعرف حق الضيف، كما يعرف هؤلاء.

حصل الشيخ أحمد الرزيقى على وسام الجمهورية من الطبقة الأولى تقديرًا لدوره فى خدمة القرآن الكريم، كما حصل على العديد من الميداليات وشهادات التقدير، ولكن أغلى شهادة وأعظم وسام حصل عليه، كما يقول هو، حب الناس إليه. وفى يوم الخميس ٨ ديسمبر ٢٠٠٥ توفاه الله ودُفن فى «أرمنت الوابورات» مسقط رأسه.

حياة الشيخ أحمد الرزيقى حافلة بالذكريات المختلفة عبر رحلة ممتدة عبر ما يقرب من أربعين عامًا قضاها فى رحاب هدى القرآن ونوره