رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

دور الفن.. وجذور الانتماء للوطن


استوقفتني لكونفوشيوس مقولة يؤكد فيها على دور الفنون حين قال: "ضع الألفاظ موضعها ، فحين لا تضع الألفاظ موضعها تضطرب الأذهان وتفسد المعاملات، وحين تفسد المعاملات لا تُدرس الموسيقى و ﻻ تؤدى الشعائر الدينية، وحين لا تدرس الموسيقى وﻻ تؤدى الشعائر الدينية، تفسد النسبة بين العقوبة واﻹثم، ولا يدري الإنسان على أي قدميه يرقص، ولا ماذا يفعل بأصابعه العشر!".

لذلك لن أخفي عليكم مدى سعادتي حين استمعت إلى الأغنية التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي وقت انطلاقها عبر الأثير ؛ ورددتها القنوات التليفزيونية والإذاعات؛ بل استمعت إليها من الأطفال الصغار في الشارع المصري؛ والتي تميزت بالبساطة في الكلمات واللحن بالصوت الحماسي لرجال الصاعقة المصرية ، وهي" قالوا إيه "، التي قام بكتابتها الرائد محمد طارق الوديع، خريج وحدات الصاعقة، والحاصل على "فرقة السيل"، وهى أعنف تدريب قتالى عرفته البشرية فى العصر الحديث، والحاصل على فرقة مكافحة الإرهاب التى أهلته للخدمة فى الفرقة 999 قتال، الوحدة الخاصة بمكافحة الإرهاب الدولي، وأنهى خدمته معلمًا فى مدرسة الصاعقة، بعد إصابته فى أحد التدريبات؛ واختار العمل الإداري وتفضيل المعاش المبكر؛ لأنه لم يستطع تحمل أن يشاهد كل يوم سقوط زميل من زملائه ؛ و يجلس غير قادر على مشاركتهم فى الدفاع عن مصر، ويقول: " يا أبقى معاهم وبجانبهم .. يا إما أطلع من الخدمة" وأتفرغ لكتابة الأغاني الوطنية .

والأرجح أن هذه الأغنية قد حظيت بالانتشار والتوهج بقدر كبير و مؤثر في المشاعر والوجدان؛ وهو مالم تحظ به أغنية وطنية أخرى منذ انحسرت موجة الأغنيات الوطنية الجادة؛ التي رددتها أجيالنا في فترة الحراك الثوري الموَّار على كل الأصعدة السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، فكانت الأغاني ـ حتى الرومانسية منها ـ تنعم بكل الاحترام والتقديروالانتباه لمعاني الكلمات ودلالاتها. وأخيرًا ..جاءت أغنية "قالوا إيه" لتكون خير تعبيرعن الإحساس الحقيقي لرجل الشارع العادي، وقوة دافئة رائعة لإنشاد التلاميذ في طابور الصباح في كثير من مدارسنا منذ انتشارها حتى قبل قرار وزير التعليم بتعميمها بها حينذاك؛ تملأ صدورهم بنسمات الفخر والزهو بجيش مصر العظيم وأبطالنا الشرفاء الذين يهبون أرواحهم فداءً للوطن وترابه المقدس .

من هذا المنطلق كان إحساسي الدائم بالشفقة على الغالبية العظمى من الجيل الحالي للشباب، وحاجته لمن يقوم بتوجيهه باستمرار إلى أهمية دور الفن في حياته ـ وبخاصة الأغنية الوطنية ـ ودورها الفاعل في تشكيل وجدانه وقناعاته؛ وتقوية وتدعيم جذورالانتماء للوطن بداخله عبرها. وأرى انه من واجبي كابنة لأسرة ترعرعت على الموسيقى والأغاني الوطنية التي تحرك المشاعر وتهز الوجدان؛ حيث استمعت إلى الألحان الرائعة لكبار الملحنين؛ وفي مقدمتهم أستاذ الأجيال محمد عبد الوهاب ،محمود الشريف، أحمد صدقي ،محمد الموجي ومحمد فوزي وغيرهم ؛ وهي التي تغنَّى بها مشاهيرالمطربين والمطربات في مصر والعالم العربي في حقبة ماضوية من القرن الماضي، فكان لزامًا أن أشير إلى أن النجاح الحقيقى لأى أغنية لا يقاس بعدد المشاهدات وعدد مرات الإذاعة يوميًا على القنوات والإذاعات، ولكن بتأثيرها الحقيقى فى الشارع، وبخاصة بعدما شهدته مصر من ضربات الإرهاب المسلح من عناصر الخونة في الداخل والخارج ؛ علاوة على موجات الإرهاب الفكري والعقائدي التي تجتاح منطقتنا المصرية والعربية، ولتجىء هذه الأنشودة في التوقيت الملائم تمامًا كالبلسم الشافي لقلوب المصريين الشرفاء؛ الذين يعرفون قيمة الدور الذي يؤديه الجيش المصري العظيم في حماية الوطن في كل وقت ومكان، ودورها الفاعل في إيقاظ الغافلين عن وجود حرب حقيقية شرسة تخوضها مصر حاليًا .

والمؤثر والمثير في آن معاً هو البساطة في الاستخدام الفاعل للكلمات الدارجة الشعبية؛ والتعريف بأسماء الذين استشهدوا في حوادث الغدر الدنيء؛ فنتعرف إلى الشهيد "المنسي" و "حسنين" و"حربي"و " رشوان" و "مغربي"، وما أكثر شهدائنا الذين تمتلىء بهم قائمة الشرف والكرامة في سبيل مصرنا المحروسة، وما أحوجنا إلى المزيد من الإضاءة والتعريف بالمعارك القتالية التي خاضها هؤلاء الأبطال؛ وصلابة استبسالهم في المواجهات التي تتم مع الخونة من أعداء الوطن في الداخل والخارج .

هذه البساطة وقوة التأثير؛ توجب علينا إعادة النظرفي خريطة الأغنية المصرية بشكلٍ عام، فقد جاءت هذه الأنشودة لتضرب كل قواعد التنظير والتقعير في استخدامات اللغة في أغانينا، لأنها جاءت بكلماتٍ بسيطة قوية فاعلة؛ خرجت من القلب لتدخل كالسهم النافذ إلى القلب؛ ونجحت أيَّما نجاح في حلحلة المشاعر، وأعادتنا دون أن ندرى إلى أغانى الانتصارات التي مر بها وطننا، والتي أرَّخت لانتصاراتنا الرائعة على كل المستويات .

وتبقى كلمة حق واجبة كنصيحة لشبابنا الصاعد الواعد؛ بضرورة الابتعاد عن مايسمونها بالموجة الجديدة لبعض الأغنيات الهابطة؛ التي لاتحمل المضامين السامية الراقية؛ بل تنطوي على كل "الغِل والسُّم الزعاف" ضد الوطن وقيادته، ونحمد الله أن تلك الأغنيات المشوهة المسيئة؛ خرجت على ألسنة أنصاف وأرباع من يتمسحون بالفن والفنون، والمعروفين على مستوى المضللين والمشككين والهاربين خارج حدود الوطن، بل يحملون على ظهورهم وصمة العارالأبدية التي يعرفها الجميع .

وستبقى مصرنا المحروسة بفنانيها ومبدعيها الشرفاء أبد الدهر ،وسنظل في انتظار المزيد من الدعم الفني المرسخ لجذور الانتماء للوطن لدينا ..ياله من دور تضطلع به قوانا الناعمة المصرية!
أستاذ ورئيس قسم الإنتاج الإبداعي بأكاديمية الفنون