رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جبرتى السد العالى.. الحياة على طريقة يوسف فاخورى (حوار)

يوسف فاخوري
يوسف فاخوري


قبل أن أتركه بعد لقاء استمر لنحو ساعتين داخل شقته بشارع السوق في قلب مدينة أسوان، ودعني على الباب بمقطع من أشعار فؤاد حداد؛ "الناس بتاكل بعض.. مش واكل"، ربما قرأ ما يدور داخل نفسي من تساؤلات عن عزلته أو كي أتفهّم رغبته فى الأنزواء عن العالم، وهي رغبة ليست جديدة عليه؛ فقد سبق وعاش تلك الحال من قبل لدرجة أنه لم يخرج أو يكتب لنحو 16 عامًا، وكان مبرره أن الحياة سيئة، والوضع الثقافي أصبح قاتمًا بسبب شخوصه الذين يتقاتلون على اللا شىء في الحياة.
 

رغم ذلك يتفاعل يوسف فاخوري مع الحياة على طريقته؛ بحيوية شاب ثلاثيني وببساطة تصيبك بالدهشة، فكما لديه القدرة على إنقاذ من يحب يمتلك القدرة على إنجاو ما يحب حتى لو "كحت معه الحياة"؛ وهو ما حدث في بحثه عن السد العالي، فبعدما استمر لأكثر من عامين يجوب أسوان من شمالها لجنوبها ومن شرقها لغربها وفى القاهرة والصعيد ليوثق شهادات عمال ومهندسين وفنيي السد العالي وينسج من اعترافاتهم "التاريخ الإنساني للسد العالي" حدث ما لم يكن في الحسبان؛ تعطل جهاز الكمبيوتر الخاص به فاستعان بابن شقيقه لإصلاحه، لكن الأخير وفقًا للمثل الشعبي "جه يكحلها عماها"، وعلى إثر ذلك فقد "جو" كل ما كتبه من شهادات وروايات وقصص، لكن لأنه يوسف فاخوري عاد من جديد يجمع تلك الشهادات دون كلل أو ملل واعتبرها فرصة لمزيدٍ من التفاصيل والتوثيق.
لم يتنافس "جو" كما يناديه أصدقاؤه على أى جائزة أو منصب ثقافي، ورغم أن له مريدين كثر إلا أنه اختار أن يعيش بلا "شللية"؛ فقليل من الصادقين يكفي. ويقول "جو": لي أصدقاء قريبون يساعدوني فى الحياة ويحفزوني على الكتابة، ولولا (زنّهم) لما كتبت حرفًا".. ويضيف ضاحكًا: "معرفش بيحبوني على إيه".

 

"فاخوري" مع قلة كتاباته إلا أنه صاحب إنتاج إبداعي وبحثي مهم ومؤثر فإلى جانب ملحمته "التاريخ الانساني للسد العالي" له أيضًا أربع مجموعات قصصية هي "حكايات الغريب، فرد حمام، كانت تعترف لى، وتانجو"، ورواية "فتنة اللحظات الأخيرة"، فضلا عن دراسته الفريدة عن "الايروتيكا عبر التاريخ".

وربما لا يوجد ما يمكننا وصفه بالكتابة المهمة من داخل جسم السد سوى كتاب "إنسان السد العالي" الذى تأمله صنع الله إبراهيم ورءوف مسعد وكمال القلش، وكان يحوي مقابلات مقتضبة مع العمال فى موقع العمل وعلاقاتهم بالروس، لكننا نستطيع توصيف كتاب فاخوري بالـ"استثنائي"؛ ففيه توثيق شهادات ضمت كافة فئات من عملوا فى السد؛ بداية من المهندسين إلى الفنيين والعمال فإنها تكشف أيضًا الجانب الإنساني للمشكلات والمشاجرات والإساءات أحيانا ولكن الشعور السائد كان الالتزام بإنهاء العمل. لكل هذا أحب العمال سماع صوت عبدالحليم حافظ وهو يغنى "حكاية شعب" التى روى فيها قصة بناء السد العالى.


 

يقول يوسف فاخوري في حديثه لـ"الدستور" إنه عندما بدأ فى فكرة توثيق التاريخ الانساني للسد العالي حاول بدء الهرم من الأسفل؛ "الناس الأساس" وليس من الأعلى "القادة"، فعلى وصفه الكل يعرف الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، لكن العمال لا يعرفهم أحد، والتاريخ الشعبي هو ما يوثقه عرق العمال وملح الأرض، موضحًا أنه تتبع قصصهم ولاحظ أن العمل فى السد قد حول نشاطهم من الأجير المسخر للعمل فى الوسية الزراعية القديمة إلى المهني؛ الصناع والفني والمهاري، بفضل ورش صنعت لهم خصيصا وحولتهم من مجرد عمال يومية إلى صنايعية وأصحاب بصمات فى بناء السد.

ويتذكر أحد المواقف والحكاوي التي لا ينساها والتى سمعها خلال توثيق شهادات العمال أنه قديمًا كان أهالى الصعيد يسمون أولادهم أسماء حيوانات خوفًا من الحسد وبزعم أن تلك الأسماء تحميهم وتطيل أعمارهم، فأحدهم سمى ابنه "جاموس" وجاء هذا الشاب "جاموس" للعمل فى السد العالي كعامل والمعظم كان يعرفه باستثناء بعض المهندسين الروس، وكان من المعروف أنه عند تفجير الديناميت فى الجبل يخرج العمال مهرولين بعد سماع الصفارة حتى لا يقع الجبل على رءوسهم، وفى إحدى المرات ذهب "جاموس" بالقرب من أحد الجبال ونام وعندما استيقظ وجد قطعتين ضخمتين من الحجارة يحاوطونه بشكل هرمي جراء الانفجار، وظل يصرخ عندما شعر بأن الكراكة التى يقودها مهندس روسي اقتربت منه لتحمل الحجارة وظل يقول "أناااا جامووووس" فضحك المهندس الروسي وظن أنه عامل عربي يسمع صوته من بعيد يسب ويسخر من نفسه، وكاد أن يقتله بالفعل، لكن العمال أوضحوا للمهندس أن اسمه "جاموس" وهو فى ورطة ولا يمزح، حتى تم إنقاذه.


 

ورغم ذلك يعتبر "فاخوري" أن العامل الذى لا يقرأ ولا يكتب كان يستطيع فهم الخبير الروسى بالإشارة أو بكلمة روسية التقطها أثناء العمل أو بكلمة عربية التقطها الروس، وربما كانت العلاقة الدافئة بين الخبراء الروس والعمال المصريين سببًا فى تكوين طبقة من الفنيين استفادت منها مصر كثيرًا فيما بعد.

وفي حديثه عن تاريخ مشروع السد يعود "جو" إلى البدايات، مشيرًا إلى أن مصر كانت بالنسبة للإنجليز فى البداية مجرد طريق للهند ليس أكثر، ولكنهم اكتشفوا بعد ذلك أن مصر بها أهم زراعة وهي القطن والتى تحتاج لمياه، ولذلك نفذوا إصلاحات فى القناطر الخيرية؛ فحينها كانت المصانع الإنجليزية بحاجة لحجم أضخم من محصول القطن فبدأوا بتعلية أولى لخزان النيل عام 1912، وغرقت بعض القري النوبية وحدث تهجير للنوبيين بشكل محدود، لكن عام 1933 تمت التعلية بشكل أكبر وهنا حدثت عملية تهجير أكبر لناس قرى غرب سهيل وغرب أسوان ومنطقة الحصايا إلى ما خلف شريط السكة الحديد، ورحل بعضهم إلى لقاهرة، إلى أن جاءت فكرة السد العالى للمهندس اليوناني أدريان دانينوس وكان يريد أن ينفذه على حسابه الشخصي بعدما كلف الدراسات ولكن الإنجليز رفضوا، ثم عرض المشروع بعد ذلك على مجلس قيادة الثورة بمشروع لبناء سد ضخم عند أسوان، لحجز فيضان النيل وتخزين مياهه وتوليد طاقة كهربائية منه.وبدأت الدراسات في العام ذاته من جانب وزارة الأشغال العمومية المصرية (وزارة الري والموارد المائية حاليا)، وأقر التصميم النهائي للسد ومواصفات وشروط تنفيذه عام 1954.


 

عمل "فاخوري" على كتاب "التاريخ الإنساني للسد العالي" مدة عامين بين 2002 و2003، ويذكر أنه من مواليد أسوان عام 1956، وأن عدد سكان أسوان آنذاك كان 35 ألف نسمة فقط، وعندما جاء العمال للعمل بالسد كان عددهم نحو 70 ألف عامل؛ 35 فى السد و35 آخرين فى الأعمال الحرة، ونحو 1700 مهندس روسي بأسرهم، لافتا إلى أنه كان معروفًا عن الأسوانيين القدامي أنهم لا يعيشون فى عمارات ولكن فى منزل "دور أرضي أو دورين على أقصى تقدير"، ولكن حينها تم تعديل المنازل لتصبح عمائر عملاقة لتسكين القادمين للعمل فى أسوان.
 

وأكد لـ"الدستور" أنه أيضًا لم يكن هناك أى جرائم حتى عام 1960 فى أسوان، لكن بدأت الجرائم تظهر فى أسوان مع عمليات الثأر للعمال المقيمين فى أسوان وخاصة من محافظات الصعيد، وبدأت طبيعة أسوان تتغير شيئًا فشيئًا.

ونوه "فاخوري" إلى أن الدافع الأكبر له للكتابة عن السد العالي وتوثيق ما حدث فيه هو الهجوم الشديد من الغرب على السد العالي لدرجة أن فيليب جلاب كتب كتابًا قال فيه "هل نهدم السد العالي؟"، وكان الهجوم جاهلا وغبيا وغير مبرر على الإطلاق. يوضح "فاخوري" أن كتابه عن عمال السد العالي وجد نقدًا من أصدقائه النوبيين الذين اعتبروا أن السد العالي كان سببًا فى تهجيرهم من منازلهم على النيل، لكنه يتصور أن النوبيين حولوا أزمتهم لبكائية وكربلائية تاريخية، ومن وجهة نظره يقول: إن الهجوم على السد من الخارج كان مدفوعًا ضد كل عصر عبدالناصر، لكن الذى لم يلتفت إليه أحد أن إرادته السياسية كانت من القوة لتنفيذ هذا المشروع الذى حمى مصر من كوارث الجفاف والمجاعات نتيجة الفيضانات المتتالية، ومن يرغب فى العودة لتاريخ المجاعات يقرأ كتاب المقريزى "إغاثة الأمة فى كشف الغمة" عن الشدة المستنصرية.


 

يعتز "فاخوري" بشهادات العمال خاصة عمال التراحيل، إضافة إلى شهادة المهندس وليم كامل شنودة، الذى قام بعمل اختبارات للتربة فى السد العالى حيث كان يعمل نائبًا لرئيس هيئة السدود ووكيل وزارة الرى، وقد عمل من قبل فى مشروعات بلاد النوبة فى استصلاح الأراضى كتعويض للنوبيين الذين تضرروا من التعلية الثانية لخزان أسوان ومشروع كهربة خزان أسوان، فقد كانت شهادة "شنودة" حول تحويل مجرى النيل دقيقة جدًا، وحكى الدور الحقيقى للوزير صدقى سليمان الذى فجر الروتين الحكومى وتصرف بشكل فورى فيما يخص العمل، ومواقفه مع العمال والفنيين والمهندسين وفتح مكتبه لهم على مدار 24 ساعة، وبث روح الحماسة فيهم ومتابعة شئونهم ومشاكلهم النفسية والصحية، وقراراته الفورية فى معالجة أى عامل على نفقة الدولة، وهو ما حدث مع أحد العمال الفنييين؛ "كان العامل مسئولا عن إطلاق مسمار عن طريق مسدس، المسمار يخش الخوص كى يصبح "جنش"، وذات مرة ارتد المسمار وأصابه فى رأسه وقفل، وتطلّب علاجه سرعة نقله للقاهرة، فأمر "شنودة" بنقله على طائرة، وفي المستشفى قال الجراح إن تكلفة العلاج قد تصل إلى 2000 جنيه، فكتبوا له "شيك على بياض" فاستدعى زميلا  له من لندن وتمت إزالة المسمار بعملية جراحية أنقذت العامل من الموت. هناك أيضًا شهادة المهندس على صبرى، وهو الذي أدخل التعديل على الرسم الهندسي الروسي، حيث كان عضوا باللجنة العليا للسد العالى، وروى قصة السد العالى كما عاصرها من البدء والمتابعة والتنفيذ، ومدى الالتزام بأخلاقيات السد العالى التى تتمثل فى التعاون وتنظيم العمل والتفانى فيه.