رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

البابا كيرلس.. السائر على دروب الرب




الشاب عازر يوسف عطا «فيما بعد البابا كيرلس السادس» وضع فى قلبه- منذ شبابه المبكر- أن يسير على دروب الرب، فأخذ يطالع الكتاب المقدس بشغف، وحفظ مزامير داود النبى، واطلع على سير آباء الكنيسة الأولين، ويكاد أن يكون قد حفظ الكثير من كتاباتهم التى ظل يرددها طوال حياته على الأرض وحتى رحيله من هذا العالم.
ورأينا فى عهد البابا كيرلس السادس الإنجيل المُعاش، وسمعنا منه كلمة الحياة بصدق، ولمسنا فيه صورة آباء الكنيسة الأولين. فكانت أيام البابا كيرلس السادس كلها أمجاد، شهد بها الغريب قبل القريب، وكتب عنها المفكرون والكُتّاب، حتى إن الكاتب الألمانى «أوتو ميناردوس» كتب عنه يقول: «ليس عجبًا أن يصير الراهب بطريركًا، ولكن العجب أن يحيا البطريرك راهبًا»، تلك الظاهرة التى لفتت أنظار العالم كله، أن البطريرك القبطى يحيا راهبًا حقيقيًا. أما البابا كيرلس لم يتكبر فى نفسه لأنه كان بالحقيقة سائرًا على دروب الرب منفذًا وصاياه بكل تدقيق.
لم يفكر البابا كيرلس السادس فى أن يكون مقر البابا عبارة عن «قصر باباوى» كما يفكر البعض!! لذلك نجد البابا كيرلس لم يغير معالم المقر الذى كان يقيم به سواء بالقاهرة أو بالإسكندرية، بل كان يعتبر الحجرة التى يقيم بها بالمقر البابوى هى «قلاية» لأنه يحيا الحياة الرهبانية بكل أبعادها. لذلك نجد أن البابا كيرلس ألبس المقر البابوى ثوب «الروح المنير»، حتى أصبح منظره أمام الله «متلألئًا بالروحانية مزدانًا بالقدسية»، وهذا ما عرفناه عن طاحونة الهواء التى عاش فيها الراهب مينا المتوحد بضع سنوات، كانت مكانًا موحشًا على تل من تلال جبل المقطم بمصر القديمة، فتحول على يديه إلى قطعة من السماء، إذ كان يحرص على أن يقيم بها الصلوات الصباحية والمسائية، فهرع الناس إلى طاحونة الهواء طلبًا للصلاة والعبادة بالروح والحق.
تمنى بعض الغيورين على مجد الكنيسة أن يلمس البابا كيرلس مقره- الذى توارثته أجيال- بيد التجديد!! ليصبح لائقًا بكنيسة يمتد تاريخها إلى ما يزيد على عشرين قرنًا فى أعماق التاريخ، وفكّر البعض كما يفكر بعض الأساقفة- للأسف الشديد- أننا نعيش عصر التفتح والتطور السريع الإيقاع، وفى نفس الوقت أهملوا أساس العمل الرعوى!! لقد رأينا أحد الأساقفة الحاليين وهو بداخل الكنيسة، عندما بدأت الصلاة غادر الكنيسة ولم يصلِّ!! أمر مؤسف ومُحزن.
حدث عقب ظهور القرعة الهيكلية النزيهة فى يوم الأحد ١٩ أبريل ١٩٥٩ أن توجه مندوب جريدة «وطنى» إلى الراهب المختار من الله الأب مينا البراموسى المتوحد وسأله عما إذا كان سيقيم دارًا بطريركية جديدة؟ إلا أن الراهب الوقور- السائر بحق على دروب الرب- قال بكل ثقة وتقوى: «إن أمامنا ما هو أهم من بناء دار للبطريركية.. وعندنا أن كل ما يعود بالخير والرفاهية على أبناء الكنيسة، وبث الطمأنينة فى نفوسهم له الأسبقية على غيره».
هنا ظن بعض قادة الكنيسة- فى ذلك الوقت أو حتى فيما بعد- أن قعوده هذا علامة التخلف!! وربما جمود الفكر!! وإن الآمال المعقودة عليه قد تبخرت!! وقد أدرك هؤلاء أنهم كم كانوا مخطئين فى هذا التأييد!! وصاروا فى حزن لحال مقر البابا- عنوان الكنيسة التليدة- الذى يستقبل فيه قصاده من مصريين وأجانب لبعضهم شأن كبير على مستوى العالم. ولكن هؤلاء وأولئك لم تقع على عدسات عيونهم ألوان الجدران الكالحة أو المتساقطة، لكننا نجد مثلًا مستر «يوجين بلاك» رئيس مجلس الكنائس العالمى- فى ذلك الوقت- لم يسخر ممن يحيا فى ذلك المبنى الذى تنقصه الكثير من المظاهر التى تليق بمكانة بابا الإسكندرية خليفة القديس مارمرقس والبابا أثناسيوس الرسولى، ولكن استوقفته كلمة القديس مار إسحق التى وضعها البابا كيرلس على باب قلايته والتى تقول: «من هرب من الكرامة بمعرفة، تبعته، وأرشدت الناس إليه»، كما سجل تعليمًا آخر للقديس مار إسحق يقول: «ازهد ما فى يد الناس، يحبك الناس. وازهد فى الدنيا يحبك الله».
وأذكر أنه مع بداية إنشاء دير القديس مينا العجائبى بصحراء مريوط- وكانت البداية سبعة رهبان- أنه طلب من والدى الأستاذ بديع عبدالملك «١٩٠٨ - ١٩٧٩» المتخصص فى الخط الفرعونى والخبير فى رسم الرسوم الفرعونية بالمتحف اليونانى الرومانى بالإسكندرية أن يسجل بخطه البديع بعضًا من كتابات القديس مار إسحق السريانى، ثم تم وضع تلك الكتابات بداخل إطارات زجاجية ثم تم تعليقها على حوائط الدير الداخلية حتى يطالعها الآباء الرهبان ويحيوا حياتهم الرهبانية على ضوء تلك الكلمات النسكية الصادقة.
حقًا لم ينتبه الأقباط إلى التغيير الحقيقى الذى أحدثه البابا الجليل فى مقره، لأن كثيرًا من الأقباط صرفوا الذهن إلى المبنى الذى يبيد مع الزمن، ولم يفكر البعض يومًا فى عمل الروح الذى لا تحفُل السماء إلا به!! لقد صيّر البابا كيرلس- بتقواه الحقيقية وتلمذته الأمينة لطريق الرب- كرسى القديس مرقس مهبطًا لأنوار سماوية.
لقد رفض البابا حتى طلاء حجرته «التى هى قلايته»، وذلك من منطلق تواضعه الحقيقى وبساطته الشديدة والتزامه بالمبدأ الرهبانى «الفقر الاختيارى». لقد تمسك بصدق بما ورد فى سفر المزامير «ومعك (أى مع الله) لا أريد شيئًا فى الأرض». فمن تمسك بالصلوات اليومية وعاش قوتها والتعزيات الكثيرة التى كان الرب يعزيه بها، لن يعبأ بلون حائط، أو ببلاط تدوسه الأحذية، لأن قلبه كان مشدودًا نحو الأمور السماوية.
لقد سنحت لى الفرصة فى عام ١٩٦٩ أن أتواجد بمفردى فى حجرة استقباله بالمقر البابوى بالإسكندرية- والتى كانت متصلة بحجرة نومه، وقد خرج من حجرة نومه وحضر إلىّ بأبوة معهودة، وقد رأيت بنفسى سريره النحاسى القديم الذى كان يخلد إليه فى أوقات راحته القليلة، وقد سُر بابتسامة أب محب عندما شاهد ابنه يحمل مسطرة الهندسة، فأخذ المسطرة الهندسية الطويلة وخبط عليها بيده، وقال لى: «أش أش كبرنا وكمان دخلنا كلية الهندسة»، ثم أخذ يصلى لى- لأنه رجل الصلاة. كم كنت أستمتع من وقت لآخر بأبوته الفائقة ويتولد لدى الإنسان أنه بالحقيقة رجل الله.
تأثرًا بأبوته الحارة وما رأينا فيه من نموذج رائع لآباء الرهبنة الأولين، حدث فى عام ١٩٨١ عندما تقدمت بأطروحة رسالة الدكتوراه فى الرياضيات بجامعة وندسور بكندا، سجلت فى مطلع الرسالة إهداءً لروح البابا كيرلس السادس، وكتبت هكذا «لأبوته الحارة». لم أكتفِ بذلك بل سجلت فى مقدمة الرسالة فى مقدمة الجزء الخاص بالشكر لكل أساتذتى الأفاضل الذين ساعدونى فى هذا العمل الأكاديمى، آية من الكتاب المقدس من سفر «نحميا النبى»: «إله السماء يعطينا النجاح ونحن عبيده نقوم ونبنى»، وهذه الآية كان دائمًا يرددها على مسامعنا البابا كيرلس السادس فى كل عمل ناجح يقوم به، وكانت كل أعماله بالحقيقة ناجحة وفيها تمجيد لقوة الرب التى ساندته. ولأنه سار بأمانة على دروب الرب، فإن تلاميذه الثلاثة- الذين تعاقبوا على الخدمة معه منذ عام ١٩٥٩ وحتى ١٩٧١- صاروا رهبانًا أتقياء، وكان بنفسه يطمئن منهم وعليهم أنهم متمسكون بالقوانين الرهبانية، ولم لا وقد رأوا فيه القدوة الطيبة. كانت أيامه كلها مباركة.