رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الإخوان وحصاد الهشيم


إذا أردت أن تعرف السبب الذى جعل جماعة الإخوان هى السيف الذى وضعه أعداء الأمة فى قلبها فلا تُرجع الأمر لسيد قطب ومشروعه التكفيرى الواضح، ولكن عد أولًا وقبل أى شىء لحسن البنا وأفكاره وتاريخه وبداية تأسيسه الجماعة، ولعلك ستقع فى الحيرة أكثر وأكثر إذا أردت معرفة فقه حسن البنا ومدرسته المذهبية، فقد كان فى حقيقة الأمر غامضًا فى هذه الناحية، إذ لم نر من حسن البنا كتابًا رائدًا فى الفقه أو الحديث أو التفسير أو أى علم من علوم الدين، وأظنه لم يكن مؤهلًا لكتابة أى كتاب يضعه فى مصاف الفقهاء.
ومن الغريب أن بعض تلاميذ هذا الرجل كتبوا عنه مئات الكتب، وكان من ضمن ما كتبوا عشرات فى تفسير «رسائل البنا» وكأنها قرآن يحتاج إلى تفسير، وكان أول من كتب فى هذا المجال الدكتور القرضاوى الذى ارتفع بالبنا وبرسائله حتى إنه اعتبرها أعلى «تفسير عصرى للإسلام».
ولم يقف الأمر عند هذا الحد ولكن الجماعة كلها عبر تاريخها مارست شيئًا من النرجسية وهى ترسم صورة حسن البنا فى أذهان أعضائها، وصولًا إلى محاولة ترسيخ نورانية غير حقيقية للرجل فى ضمير الأمة كلها، ولذلك فإننى لا أظن أن هناك جماعة استطاعت أن ترفع من قدر قائدها مثل الإخوان، فحسن البنا لديهم فوق القداسة، حتى إنه تحول فى ضمائرهم إلى نبى ورسول، وليس لأحد أن يتعجب من هذا القول، فإن أنسى فلا أنسى أبدًا درسًا ألقاه علينا أحد شيوخ الجماعة الكبار حين كنت فى شبابى الأول أحث الخطى نحو الجماعة.
إذ قال هذا الشيخ وهو يتحدث عن حسن البنا: «لكل أمة نبى ورسول، ولأن سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، هو آخر الأنبياء والرسل، لذلك وهب الله للأمة فى كل جيل نبيًا غير مرسل، ولكنه ملهم من الله سبحانه للقيام بدوره كنبى فى تبليغ رسالة الأمة، وهو غير الذى يجدد للأمة أمر دينها، فالذى يجدد لأمتنا أمر دينها قد يكون فردًا أو جماعة أو جامعة أو مؤسسة أو مجموعة من العلماء، ولكن النبى غير المرسل هو دائمًا شخص واحد، وقد كان نبينا غير المرسل هو الإمام الربانى حسن البنا».
وأذكر أننا دخلنا فى جدل فقهى بعد ذلك عن مسألة «النبى الملهم غير المرسل» وما هى الأدلة الدينية على صحة هذا الأمر، وحين توجه بعضنا للشيخ عبدالمنعم تعيلب أحد كبار دعاة الجماعة قال تبريرًا لهذا الرأى: الحكمة هى النبوة، والله يهب الحكمة أى النبوة لمن يشاء، ألم يقل «يؤتى الحكمة من يشاء»، وقد وهب الله الحكمة أى النبوة لحسن البنا، وكان من دلائل ذلك أنه أنشأ هذه الجماعة فانتشرت فى ربوع الأرض، وهى فى ذات الوقت تعيد للدنيا من جديد الإسلام الذى غفلت عنه الأمة، فهو بهذه المثابة نبى لم يرسله الله، ولكن ألهمه، وأتاه الحكمة.
ولكن من هو الذى زرع هذه الفكرة فى الإخوان حتى إنهم أصبحوا يطلقون على البنا لقب «الإمام الربانى» إيحاءً بأنه من الرجال المتصلين بالله؟! حسن البنا هو الذى ألقى فى أمنية الإخوان هذه الأفكار المنحرفة، ولك أن تراجع رسائله، فهذه هى بضاعتهم.
قال البنا فى إحدى رسائله وهو يعرف الإخوان موقعهم من الرسول، صلى الله عليه وسلم: «نحن ولا فخر صحابة رسول الله، صلى الله عليه وسلم! هذه منزلتكم فلا تصغروا أنفسكم فتقيسوا أنفسكم بغيركم»، حسن البنا يزكى نفسه وجماعته فيقول إنهم صحابة رسول الله، ولا أظنه انتبه للآية القرآنية «فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى».
ولكن البنا يصر على الاستمرار فى التزكية بجرأة كبيرة، فيقول فى موضع آخر للإخوان «من اتبعنا فقد فاز بالسبق، ومن رغب عنا فسيقذف الله بحقنا على باطله فيدمغه» ثم يتطور الأمر معه فيقول «من أراد أن يعرف الإخوان فليمسك بمصحفه وليجرد نفسه من الهوى وليرى ما عليه القرآن ساعتها سيعرف من هم الإخوان».
ثم يستمر فى رسائله «يا قومنا إننا نناديكم والقرآن فى يميننا والسنة فى شمالنا وندعوكم للإسلام»! إذن جماعة الإخوان تدعو الأمة المصرية المسلمة للإسلام، هكذا يقول لهم البنا، ولكن أيكونون مجرد دعاة فقط؟ لا إنهم أعلى من ذلك.
ففى حين يصل الوجد بحسن البنا أشده يقول لإخوانه: «قد يقول الناس لكم ما زلتم غامضين فقولوا لهم نحن الإسلام أيها الناس»! وبذلك أصبحت الجماعة هى الإسلام نفسه، وأصبح أفرادها هم دين الإسلام، فكيف لنا أن نختلف معهم بعد ذلك، إنك لو فعلت تكون قد اختلفت مع الدين نفسه.
فإذا كانت هذه هى أفكار الجماعة فهل كانت بالفعل تبحث عن الدين؟ نعرف أن جماعة الإخوان هى التى وضعت الصياغة العصرية لمشروع الإسلام السياسى، وهو فى الحقيقة مشروع لا علاقة له بالإسلام من قريب أو بعيد، وعبر سنوات طويلة دافعت فيه الجماعة عن هذا المشروع، وخدعت به الآلاف بل الملايين من المسلمين، واستطاعت بالفعل أن تصل إلى الحكم فى مصر لمدة عام، إلا أن وصولها للحكم كان هو التوقيع النهائى منها على فشل مشروع الإسلام السياسى الذى قادته.
وكانت الشعارات التى رفعها أصحاب هذا المشروع ودغدغوا بها مشاعر الشباب، هى أنهم يسعون إلى تديين السياسة وتخليصها من أدرانها، وتحديد مسارات أخلاقية لها، ولكن العكس هو الذى حدث، فقد قاموا بتسييس الدين، وتحويله إلى دين قومى لفئة من الناس، هو أمر مشابه لفكرة اليهود عن الألوهية، فالله عند اليهود هو إله قومى لهم وحدهم دون غيرهم، سيدخلهم وحدهم الجنة، وقد خلق باقى البشر لخدمة اليهود، وهى فكرة عنصرية ضخمتها الصهيونية، والصهيونية كما نعلم هى بمثابة «اليهودية السياسية» أو الحزب السياسى للدين اليهودى.
وقد أساء الصهاينة لليهودية كما أساء مشروع الإسلام السياسى للإسلام، فعند مشروع الإسلام السياسى منذ عصور طويلة هناك فكرة الفرقة الناجية، والفرقة الناجية هى فكرة سياسية بامتياز تم تغطيتها بثوب إسلامى وتفصيل حديث نسبوه للنبى بشأنها، واستخدمت كل الفرق الإسلامية فكرة الفرقة الناجية لتثبت أنها هى التى ستنجو من النار دون غيرها، ليس دون غيرها من الأديان الأخرى ولكن الفرقة الناجية من بين المسلمين الذين سيكونون وقودًا للنار! وكأن الله خلق الخلق كلهم للنار، وخصص الجنة لفرقة بعينها، فى زمن بعينه.
وقد توغل هؤلاء فى دمج بعض الأفكار السياسية بالدين، ودمج بعض التجارب الإنسانية للمسلمين الأوائل فى الدين نفسه، مع أن تجاربهم فى الحكم والسياسة كانت محض تجارب بشرية، وقد كتبتُ من قبل فى أحد كتبى أن كل فرق الإسلام السياسى زعموا أنهم سيُصلحون السياسة بالدين، فأفسدوا دينهم بالسياسة، ثم أفسدوا السياسة بمفاهيم التقية، والضرورات تبيح المحظورات، والكذب، والتخوين، والتشويه، والتكفير، وقد كان من أسباب هذا الفشل عدة أشياء منها أنهم استخدموا بعض القواعد الفقهية فى مجال السياسة وتوسعوا فى استخدامها بشكل أساء للدين وأفسد السياسة، ومنها أنهم نظروا باستعلاء للآخرين، وزعموا أنهم يمتلكون الحقيقة المقدسة، والسياسة ليس فيها حقيقة مقدسة، ومنها أنهم آمنوا بالديمقراطية بشكل وقتى إلى أن وصلوا للحكم، ثم انقلبوا على مفاهيم الديمقراطية بعد ذلك، ومنها أنهم أعادوا إنتاج الفقه السياسى القديم فى عصور الإسلام الأولى، وأرادوا أن يحكموا به الواقع الحالى رغم اختلاف الزمان والمكان وحدوث تطورات غيَّرت الدنيا كلها.
كما أننى لا أتفق مع القول بأنهم تأرجحوا بين تحقيق متطلبات العقيدة وتحقيق متطلبات الإدارة السياسية، لأنهم فى الحقيقة لم يفكروا فى تحقيق متطلبات العقيدة، ولكنهم فكروا فقط فى استغلال الدين وقواعده الفقهية لتحقيق مصالحهم السياسية، وأضرب مثلًا فى ذلك بقاعدة ذكرتها الآن وهى قاعدة «الضرورات تبيح المحظورات»، وهى قاعدة فقهية يتم تطبيقها فى أضيق نطاق، وللحفاظ على الحياة فقط، وهذا هو المفهوم الصحيح للدين وإلا لأصبح الدين قائمًا على مفهوم «مكيافيلى». الغاية تبرر الوسيلة، وكان من ناتج ذلك أن أصبح كل ما نهى عنه الدين من كذب وتزوير وتزييف وتشويه سمعة الناس وسبهم وغير ذلك هو من المحظورات التى يجوز فعلها لأنه سيترتب عليها كما يقولون ضرورة هى أعلى الضرورات ألا وهى وصول الإسلام للحكم، وبقاء الإسلام فى الحكم، مع أن الذى سيصل للحكم هو السيد فلان الإخوانى وليس السيد «إسلام» الذى هو دين وليس شحصًا أو جماعة.
ولذلك فإننا نستطيع القول بيقين: إن مشروع الإسلام السياسى الذى ولد فى العصر الحديث على يد جماعة الإخوان قد انتهى وذهب إلى متحف التاريخ، وسبب ذلك أنه لم يقدم للأمة ما وعدها به، وتحوّل إلى مشروع قائم على استخدام القوة لتحقيق الأهداف السياسية.
وإذا أردنا أن نضع خاتمة لهذا المشهد الحالى سنرى أن الوحيد الذى حقق مكسبًا كبيرًا من ظهور جماعة الإخوان وصراعها على الحكم هو المشروع الصهيونى، فمما لا شك فيه أن مشروع الإخوان كان هو الكنز الاستراتيجى لإسرائيل، وهو الذى ساعدها على تفتيت جبهة الجهاد الفلسطينى، وهو أيضًا الذى قضى على المشروعات الديمقراطية الناشئة فى بلادنا، وهو الذى سمح للقاعدة والدواعش بالتواجد فى بلادنا.