رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الصعود المفاجئ والانحدار السريع «9»




قبل الحظر بساعتين قررت أن أخرج من البيت، أنفض كثيرًا من غبار الوهن، الخوف، أريد أن أرى المدينة وهى تستعد للنوم قسريًا.. لم أكن قد ولدت عندما وقعت الحرب العالمية الثانية، وفى الحروب التالية كنت فى كلية الشرطة، أو فى الخدمة، لم أعش أجواء الحرب مباشرة، الآن وبعد فض الاعتصام، تبدو المنيل كموقع استراتيجى، مَعبر يحاول المتظاهرون القادمون من الجيزة المرور من خلاله للوصول إلى التحرير.
تتحول الجزيرة الهادئة كل جمعة إلى ثكنة، بدءًا من إغلاق كوبرى الجامعة قبل الثانية ظهرًا، ويكون على الراغب فى العبور للجزيرة التوجه إلى كوبرى عباس، حيث تتمركز وحدات من الجيش مع نهاية الكوبرى فى تقاطع شارع عبدالعزيز آل سعود مع شارع القلعة، وبعد أمتار قليلة يتجمع شباب ورجال الحى وبينهم رجال من الأمن الوطنى فى انتظار ظهور أى تجمع للإخوان، كى يأخذوا بثأر الشهداء الذين لم تجف دماؤهم بعد أن تمكن الإخوان من عبور كوبرى الجامعة والصعود لمئذنة مسجد صلاح الدين وإطلاق الأعيرة النارية على الشباب، الذين وقفوا لمنعهم من المرور بشارع السرايا، كى يكملوا طريقهم لشارع «قصر العينى» والاعتداء على المعتصمين فى التحرير.
تلك أطول ليلة مرت بى منذ تركت الخدمة، ما إن تحركت الأحداث اقترحت هند أن نعود للمنيل، السرايا هناك حصينة، وعشرات من الرجال العاملين فى أراضينا والمؤجرين يحيطون بها، رفضت سلوى وأروى الاقتراح «لن نترك بيتنا».
وأنا لم أستطع ترك الفيلا وأضيع السر الذى استأمننى عليه مدير الجهاز، حتى وإن كان محبوسًا فى السجن الاحتياطى.. هو سرى الذى تم نقله بسرية تامة، جزء من أرشيف الجهاز مخزون داخل بدروم الفيلا، تم نقله ليلًا قبل مهاجمة مقرات مدينة نصر وأكتوبر وتوزع الأرشيف على عدة أماكن، لا يعرف خريطتها غير اللواء حماد، كل التعليمات والأوامر شفهية، وتقلبت الأمور، ويبدو أن الكل نسى هذه الصناديق، لا أحد يريد أن يتذكر الجثة العفنة، دعها مدفونة، تتحلل الجثث وتتسرب فى باطن الأرض، لكنها تعود فى أوراق الأشجار فى الغبار الذى ينقض علينا، ويظل يتسرب وينتشر، أرقام وحكايات، صرخات ومؤامرات، تجبر وخديعة من كل شىء، ومن كل الفضلات والبقايا والمهموس يتناثر الغبار حاملًا رائحة وطعم كل شىء.
منذ استقرت الصناديق الخشبية فى غرفة مغلقة فى البدروم لم أحاول أن أراها.. فقط أخذت على عاتقى أن أحمى كل هذه التحقيقات، كل هذه الأسئلة، كل هذه الحقائق، كل هذه الأكاذيب، وقد صارت شيئًا يتناساه الجميع رغمًا عنهم، التاريخ يتآكل ونحن لا نُبقى على شىء.
لم أستطع التمشية لمسافة طويلة، أجلس عند بائع الجرائد وبجواره بائع الذرة.. ابنته فى كلية الطب، لم يعد يجلس فى النهار، حتى لا تراه ابنته، أتذكرها وهى تساعده، يقول الرجل: «جابت مجموع كبير، لم أستطع أن أكسر خاطرها».
ليس علىّ أن أستنكر موقف الفتاة، فهناك مواجهات وحقائق تحتاج لشجاعة كبيرة، شجاعة لا نستطيع أن ندفع ثمنها أو تكملة كلفتها.
تمد صاحبة كشك المشروبات يدها بعلبة عصير، أضعها بجوارى على الكرسى المعدنى
- يا باشا معاكسين الأيام دى فى تجديد التراخيص.
الرصيف الذى أجلس عليه تآكلت بلاطاته، وحركة المارة أمامى متسارعة، محمومة، تريد أن تنجز شيئًا، أن تنهى شيئًا، تريد أن تعود للاستقرار والثبات والسكون، تريد أن تعود للسكون على كنبة، كرسى، سرير، أن تتحول من طاقة حركية إلى طاقة وضعية، كامنة فى ذاتها، يعود الإحساس بالأمان، ما إن تغلق عليك باب شقتك، ربما فى مدخل العمارة، تتنفس براحة.
يخرج كلب من حديقة إلهامى باشا التى تتوسط الميدان يليه اثنان، ثلاثة، تتسكع فى أول شارع المنيل، تصنع مستعمرة جديدة، تجمعات ثلاثية، رباعية، كلاب بلدية، لم تكن تظهر فى الأوقات العادية.
تحولت الحديقة الجميلة التى تحمل اسم إلهامى باشا، زوج الأميرة شويكار، إلى مأوى للكلاب الضالة والمتسكعين والمشردين الذين يتخذون الحديقة مأوى، فيتجمعون حول سورها قبل الغروب، تآلفت الكلاب مع من لا مأوى لهم، فلا يثير نباح الكلاب سوى متشرد جديد، لا يعرف قواعد المناطق الخاصة، ولم يرش بوله على منطقة يتخذها محمية، فى أسفل شجرة أو شجيرة، أو بجوار السور الذى انبعجت قوائمه الحديدية فى أكثر من موضع، على الوافد الجديد أن يدفع ثمن جهله، وهو ليس ثمنًا غاليًا، الكلاب لديها ألفة لكل غريب، هى فقط تخبره بنفوذها، ووجوب أن تترك بصمتها عليه، زيادة فى تمزيق جلبابه المهترئ العفن، عضة تظهر فى جلده تخترق طبقات العفن والطفيليات حتى تصل إلى جلده ثم تصطدم بعظامه، فترتد وقد أدركت أنه رفيق.