رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

البطريرك الناسك.. 50 عامًا على رحيل البابا كيرلس


٩ مارس ذكرى غالية فى نفوس الأبناء المخلصين للكنيسة والمُحبين للوطن. ففى مثل هذا اليوم منذ خمسين عامًا رحل عنا أب عظيم وقائد حكيم وناسك تقى هو البابا كيرلس السادس «١٩٠٢ - ١٩٧١» البطريرك ١١٦، الذى سيم أسقفًا للإسكندرية ومن ثم بطريركًا طبقًا للتقاليد العريقة للكنيسة القبطية- فى ١٠ مايو ١٩٥٩.

وتمر الأيام ويشاء الله أن يختار الراهب المتوحد مينا البراموسى ليجلس على الكرسى المرقسى فى ١٠ مايو ١٩٥٩، فكان يومًا ذا رنين خاص، فقد أُذيعت صلوات السيامة من محطات الإذاعة مباشرة أثناء تأديتها «لم يكن التليفزيون قد أُدخل بعد فى مصر».
لقد كانت سيامته حدثًا جليلًا تهلل له قلوب المصريين، إذ كانت رسامة قانونية بعد العديد من المخالفات التى حدثت منذ تنصيب البابا يؤانس ١٩ فى ديسمبر ١٩٢٨. وحين علم الشعب كله أن البابا الجديد اسمه «كيرلس» كتب عباس محمود العقاد مقالًا فى جريدة الأهرام، قال فيه: «إن اسم كيرلس ذو رنين خاص فى تاريخ الكنيسة القبطية: فكيرلس الأول عامود الدين، والثانى مشرع حكيم، والثالث مرشد يقظ، والرابع أبوالإصلاح، والخامس زعيم روحى قومى من الطراز الممتاز». ويشاء الرب أن يكون السادس «رجل الصلاة».
الشىء العجيب أنه بعد أن صدرت لائحة ١٩٥٧ المليئة بالمخالفات الكنسية، جاءت انتخابات ١٩٥٩ التى أتت بالراهب مينا البراموسى المتوحد، والذى حمل اسم البابا كيرلس السادس وصار البطريرك ١١٦ تبعًا للتقاليد العريقة التى استقرت فى الكنيسة وليس طبقًا للائحة ١٩٥٧!!، لأن قائمقام البطريرك- فى ذلك الوقت- الأنبا أثناسيوس مطران بنى سويف «١٨٨٣ - ١٩٦٢» كان مُلمًا بقوانين وتقاليد الكنيسة كما كان شجاعًا، فاقتصر الترشح على الرهبان فقط، ورفض تمامًا ترشح المطارنة والأساقفة.
حرص الراهب مينا البراموسى المتوحد فى ليلة سيامته بطريركًا أن يقوم بنفسه- فى الكاتدرائية المرقسية الكبرى بالأزبكية- فى إعداد القربان الخاص بصلوات القداس. فلم تغير البطريركية أى شىء فيه، إذ ظل طوال فترة بطريركيته هو نفسه الراهب مينا البراموسى المتوحد. حتى إنه قام فى فجر سيامته بطريركًا وتوجه إلى الكنيسة منفردًا- بعد منتصف الليل ليؤدى صلاة التسبحة الكنسية بنفسه ومنفردًا باللغة القبطية.
بدأ البابا كيرلس السادس عمله الرعوى المبهر بإعادة إحياء مدينة «بومينا» أو القديس مينا الأثرية بمريوط، التى يعود تاريخها إلى القرن الرابع الميلادى، والتى كانت حتى القرن التاسع الميلادى محجًا مسيحيًا عالميًا، فكشف بذلك عن صفحة مجيدة فى تاريخ كنيسة الإسكندرية «وليس الإسكندرية والقاهرة!!» تؤيدها الآثار، فبادر بوضع حجر أساس دير مارمينا بمنطقة مريوط فى ٢٧ نوفمبر ١٩٥٩، وأسند إلى خبير رسم الخط الهيروغليفى والرسم الفرعونى بالمتحف اليونانى الرومانى بالإسكندرية الأستاذ بديع عبدالملك «١٩٠٨ - ١٩٧٩» مسئولية كتابة اللوحة التذكارية لحجر أساس الدير باللغة العربية وأيضًا كتابة اسم القديس مينا باللغة القبطية على المنارة الشاهقة التى تعلو كنيسة الدير الحديث- على واجهات المنارة الأربع- والتى مازالت قائمة بشموخ تشهد على روعة الإبداع فى الكتابة وحسن التنسيق.
وعندما أيقن أن كنائس إفريقيا ستتلفت نحو كنيسة الإسكندرية- بعد زوال الاستعمار الأجنبى من أراضيها- بدأ بإنشاء كاتدرائية كبرى تتفق ومركز مصر المرموق فى العصر الحديث، وحضر حفل وضع حجر أساسها الرئيس جمال عبدالناصر فى يوم السبت ٢٤ يوليو ١٩٦٥، ثم فى يوم الثلاثاء ٢٥ يونيو ١٩٦٨ قام الرئيس جمال عبدالناصر بافتتاحها فى حضور الإمبراطور هيلاسلاسى إمبراطور إثيوبيا وجميع ممثلى العالم فى مشهد رائع يليق بمكانة مصر ومكانة كنيسة الإسكندرية بين بقية كنائس العالم.
وبعد انتهاء الاحتفال وانصراف الجميع توجه بعض أبناء البابا كيرلس المحبين لأبيهم يهنئونه بروعة الاحتفال وبفرحة الجميع فى ذلك اليوم. قال لهم باتضاع حقيقى وبصدق: «كل ما رأيتموه لا يمثل شيئًا من أيام الحياة فى الطاحونة الجميلة». وتلك هى طاحونة الهواء بمصر القديمة التى أقام بها عدة سنوات، وخدم من خلالها كل أبناء المنطقة بل وكل من سمعوا عنه فأتوا إليه من جميع المدن المصرية.
ثم فى ٩ مايو ١٩٦٩ أسند لمجموعة رهبان وتلاميذ الأب متى المسكين «١٩١٩ - ٢٠٠٦» ترك صحراء وادى الريان والذهاب لتعمير دير أنبا مقار بوادى النطرون بعد أن كان الدير قد صار فى حالة يرثى لها من حيث عدد الرهبان والوضع المعمارى.
وفور نشوب حرب ١٩٦٧ كلف أسقف الخدمات العامة والاجتماعية الأنبا صموئيل «١٩٢٠ - ١٩٨١» بالذهاب إلى جنيف والتباحث مع مجلس الكنائس العالمى للحصول على أدوات طبية وأغذية ومساعدات للجرحى والمشردين.
أيضًا اهتم بالعلم والثقافة فاحتضن الأساتذة الأفاضل مؤسسى معهد الدراسات القبطية بالقاهرة- وهو المعهد الوحيد المتخصص فى الدراسات القبطية فى الشرق، الذى تأسس فى يناير ١٩٥٤ على يد د. عزيز سوريال عطية «أستاذ العصور الوسطى» ود. سامى جبره «عميد كلية الآثار» والأستاذ راغب مفتاح «المهتم بالموسيقى القبطية» للنهوض بالدراسات القبطية الذى انبثقت فكرته من جمعية مارمينا العجايبى بالإسكندرية. فكان يجتمع بأساتذة المعهد لتذليل العقبات التى تعيق قيامهم برسالة المعهد.
وفى عام ١٩٦٩ عندما علم بقيام جمعية مارمينا العجايبى بالإسكندرية بوضع مرجع فريد لقواعد اللغة القبطية، طلب الاطلاع عليه وأمر بطبعه على نفقته الخاصة، وبذلك أسدى إلى العلم بإخراج ذلك الكتاب إلى عالم النور، يدًا لا تُنسى أجيالًا وقرونًا عدة. وكان آخر كتاب صدر فى هذا الموضوع عام ١٩٢٤ بتكليف من وزارة المعارف للدكتور جورجى صبحى «كتاب قواعد اللغة القبطية» لطلبة قسم الآثار بالجامعة المصرية.
إن هذا التاريخ الذى نذكره فى فترة البابا كيرلس السادس- فى ذكراه العطرة- هو علم مهم من معالم الحياة المصرية وجزأ لا يتجزأ من تاريخها الطويل المُشرف.
وبعد انتهاء رحلة حياة البابا كيرلس السادس أُطلق عليه لقب «رجل الصلاة»، كما أن القيادة السياسية عبَّرت عنه بعبارات صادقة وحقيقية بقولها: «إنه ابن من أغلى أبناء مصر وإننا جميعًا افتقدنا فيه مناضلًا عظيمًا وأبًا روحانيًا حقيقيًا كان يعيش بفكره وقلبه مع قضايا الحرية وعنوانًا كبيرًا للوطنية».
وهكذا كمُلت أيام الرحلة الرائعة التى امتدت من ٢ أغسطس ١٩٠٢ حتى يوم الثلاثاء ٩ مارس ١٩٧١. إن سجله الرائع نقدمه لأبناء مصر فى ذكراه العطرة، وفاءً لصاحب الذكرى وتكريمًا لصفحة ناصعة من تاريخ مصر.