رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المصير المشترك




شاءت ظروف عملى فى وقت سابق أن ألتقى السيد الصادق المهدى، رحمة الله عليه، إبان رئاسته حزب الأمة السودانى، عندما كان يأتى إلى القاهرة فى زيارات رسمية وغير رسمية، ودائمًا كان يجيب عن أسئلة بعض الإخوة الصحفيين الذين يستقبلونه فى المطار عن سبب الزيارة فيقول: «أصل مصيرنا مشترك».
أعتقد أن تلك العبارة التى سمعتها منذ عدة سنوات التى رددتها كريمته الدكتورة مريم الصادق المهدى، وزيرة الخارجية السودانية، فى كل اللقاءات التى قامت بها عند زيارتها للقاهرة منذ عدة أيام- تؤكد أنه لم يعد هناك مجال للعبارات الإنشائية والمجاملات الكلامية التى تتردد فى الزيارات والمناسبات الرسمية بصفة عامة، فتلك العبارة أصبحت تمثل واقعًا حقيقيًا حاليًا بين مصر والسودان، فالمخاطر أصبحت شبه متماثلة ومحاولات فرض الأمر الواقع فى بعض المواقف السياسية والحياتية باتت تؤرق الشعب المصرى مثلما تؤرق الشعب السودانى فى ذات الوقت.. لقد أصبح التاريخ هو الواقع الحالى «المصير المشترك».
حتى وقت قريب كانت القضية المحورية التى تتم مناقشتها على مدى خمس سنوات بين مصر والسودان تجاه إثيوبيا هى قضية سد النهضة، ولم يكن هناك اهتمام بما يحدث هناك إلا بهذا الملف فقط، إلا أننا وجدنا مواجهات عسكرية تتم على الحدود السودانية ضد اعتداءات من قوات إثيوبية مدعومة بقوات إريترية، ووجدنا أن هناك حربًا حقيقية يتعرض لها شعبنا فى السودان، وللأسف لم يكن هناك اهتمام عربى بما يحدث على الرغم من الظروف الاقتصادية والإنسانية الصعبة هناك، وكان الدعم الاقتصادى العربى للسودان محدودًا للغاية فى الوقت االذى تتلقى فيه إثيوبيا دعمًا عسكريًا من أطراف أخرى وسط حالة من الغموض والتجاهل التى ما زلنا نراها فى مواقف بعض الدول العربية التى دأبت على التغنى بالعلاقات الأخوية التى تربط الشعوب العربية دون أن تقدم أى دعم يثبت ذلك.
بل إن جامعة الدول العربية ذاتها لم يصدر عنها قرار صريح بإدانه الاعتداءات الإثيوبية ولم يتم تفعيل أى بند من بنود اتفاقية الدفاع العربى المشترك، بل إن وسائل الإعلام العربى لم تحاول الذهاب إلى الحدود السودانية- الإثيوبية لتنقل صور المعارك والمواجهات العسكرية التى تجرى هناك.
ويبدو أن العرب قد انشغلوا بمشاكلهم الداخلية وعلاقاتهم الخارجية تاركين الشقيقة السودان فريسة أمام أطماع رجل مندفع يسمى أبى أحمد، رئيس الوزراء الإثيوبى، الذى صورت له أطماعه أنه من الممكن أن يتحكم فى الأرض وفى النهر وفى البشر، ومن هنا كان لا بد أن يتصدى لتلك الأطماع رجل رشيد ودولة قوية ارتبط مصيرها على مر التاريخ بمصير السودان، فجاء تحرك الرئيس عبدالفتاح السيسى ومن ورائه الشعب المصرى الأصيل بكل فئاته ليعلن من قلب السودان عن أن «مصيرنا مشترك».
فالسودان يمثل عمقًا استراتيجيًا جنوبيًا لمصر حاول أهل الشر وجماعة الإخوان الإرهابية استغلال ذلك أثناء حكم الرئيس السابق عمر حسن البشير، لإيواء عناصرهم الهاربة، بل إنشاء معسكرات تدريب على الأعمال الإرهابية الموجهة ضد مصر، ونجحت العلاقات الطيبة بين الدولة المصرية الحديثة والحكومة الانتقالية السودانية الواعدة فى التخلص من هذا الإرث وتفكيك سيطرة تنظيم الإخوان على مفاصل الدولة السودانية التى كانت قد نجحت فى التغلغل فى الداخل السودانى.
وتم وضع الخطط المناسبة للقضاء على أعمال العنف والاضطرابات التى كانت جماعة الإخوان تتسبب فيها، والتى كانت أحيانًا تؤثر على الأمن المصرى من ناحية الجنوب.. وتوجه خطباء وزارة الأوقاف المصرية ورجال الأزهر الشريف فى قوافل دورية إلى السودان لنشر الدين الوسطى ومحاربة الفكر المتطرف، ونجحت الأجهزة الأمنية السودانية بمساعدة الأجهزة المصرية فى إغلاق ١٣١ جمعية خيرية مرتبطة بالإخوان فى دارفور، بعد ثبوت تلقيها أموالًا أجنبية لدعم الأنشطة الإرهابية والتحريض على العنف ونشر الفكر المتطرف هناك.
فى ذات الوقت، تم التنسيق الأمنى بين البلدين لسحب الجنسية السودانية لعدد ٣٠٠ أجنبى ومصرى حصلوا عليها إبان حكم البشير، ومن بينهم العديد من كوادر الإخوان الإرهابيين الذين فروا من مصر بعد ثورة يونيو ٢٠١٣.. وبدأت مصر وحدها فى متابعة ما يدور على الحدود السودانية- الإثيوبية، وأعلنت فى بيان صريح، أصدرته الخارجية المصرية، عن دعمها الكامل للسودان فى الدفاع عن حدوده، وبدأت تتحرك إقليميًا وعربيًا للحصول على دعم الموقف السودانى تجاه الاعتداءات الإثيوبية.
كما شهدت العلاقات العسكرية المصرية- السودانية تطورًا ملحوظًا غير مسبوق، حيث جاءت أول مناورة جوية مشتركة بين نسور البلدين أطلق عليها «نسور النيل ١» واستمر هذا التعاون إلى أن تم مؤخرًا زيارة الفريق محمد فريد، رئيس أركان حرب القوات المسلحة، على رأس وفد رفيع المستوى، حيث تم بحث العديد من الملفات التى تدعم مجالات الشراكة العسكرية بين البلدين، وتم بالفعل الاتفاق على تعزيز التعاون العسكرى والأمنى المصرى- السودانى فى مجالات التدريب المختلفة والتأهيل وأمن الحدود ونقل تبادل الخبرات العسكرية والأمنية.
ثم توج كل ذلك بتلك الزيارة التاريخية التى قام بها مؤخرًا الرئيس عبدالفتاح السيسى للسودان التى كانت محل اهتمام وأنظار القارة الإفريقية كلها، وبالطبع كانت إثيوبيا تتابع تلك الزيارة بمنتهى الاهتمام انتظارًا للاتفاقيات والقرارات التى سوف تسفر عنها فى مختلف المجالات.
وبطبيعة الحال كانت عبارة «المصير المشترك» هى العنوان الرئيسى لتلك الزيارة التى أعلن فيها رسميًا عن رفض مصر والسودان القاطع للممارسات الإثيوبية تجاه ما يحدث على الحدود السودانية، وكذلك رفض سياسة الأمر الواقع فيما يتعلق بالاستئثار بمياه النيل وبضرورة التوصل لاتفاق ملزم حول سد النهضة بما يحقق مصالح الأطراف الثلاثة معًا وأن مصر تساند، وبكل قوة، كل جهود تعزيز السلام والاستقرار والتنمية فى السودان خلال تلك المرحلة المهمة من تاريخه انطلاقًا من قناعة راسخة بأن أمن واستقرار السودان يعد جزءًا لا يتجزأ من أمن واستقرار مصر، وأن مصر تقف بجانب السودان على قلب رجل واحد نظرًا لـ«المصير المشترك» الذى يربط البلدين قلبًا وقالبًا. وبدأنا فى أعقاب زيارة الرئيس للسودان فى رصد ردود الأفعال المختلفة خاصة فيما يتعلق بالموقف الإثيوبى من الاستعداد للمرحلة الثانية من ملء السد، حيث وجدنا تصريحًا من وزير المياه والرى والطاقة هناك يشير إلى أن بلاده لا تزال ملتزمة بالتوصل إلى حل بشأن السد يفيد جميع الأطراف.
ثم أعلنت بعض المصادر عن أن مصر والسودان تمهلان إثيوبيا ٤٠ يومًا لإتمام المفاوضات تنتهى فى ١٥ أبريل ٢٠٢١ وهو بداية موسم الفيضان الجديد.. وقبل شهر يوليو ٢٠٢١ وهو موعد الملء الثانى للسد الذى حددته إثيوبيا.. ولعل فى تحديد تلك المواعيد مغزى معينًا يتمثل فى إعداد سيناريو جديد يتم التجهيز له حال فشل الجهود الدبلوماسية، حيث إن قيام إثيوبيا بهذا التصرف سوف يؤدى بلا شك إلى كارثة اقتصادية وبيئية للسودان تضر بحوالى عشرين مليون سودانى، وهو ما جعلها تتخذ كل الخطوات التى من شأنها تحقيق أعلى مستوى من التنسيق والتعاون العسكرى والأمنى مع مصر التى تمكنت من خلال سياستها المدروسة خلال السنوات الثلاث السابقة من إعداد سيناريو جديد لإدارة أزمة السودان مع إثيوبيا، وأيضًا إدارة أزمات السودان الداخلية بدأته بإسقاط نظام البشير الإخوانى وضرب تنظيم الإخوان فى السودان وتوثيق العلاقات المصرية مع النظام السودانى الجديد وعقد اتفاق عسكرى بين البلدين، كل هذا يجعلنا نفخر بالإدارة المصرية لهذا الملف ونساند قيادتنا السياسية فى تحركاتها القادمة بشأن العلاقات المصرية- السودانية، وقضية سد النهضة باعتبارها قضية حياة ووجود، وأن نتكاتف معًا لدعم الرئيس على المستوى الشعبى والإعلامى والبرلمانى وأن نكثف التواصل الشعبى والرسمى مع الأشقاء فى السودان من خلال زيارات متواصلة، ويا حبذا إذا كانت تشمل مناطق الجنوب السودانى، حتى ننقل للعالم الوجه الحقيقى للسياسة الإثيوبية وتعديها على الأراضى السودانية والشعب السودانى المسالم.. ولا ننسى دائمًا تلك العبارة التى تتردد منذ مئات السنين مهما حدث من أزمات ومشكلات طارئة بيننا وبين السودان فإن «مصيرنا مشترك».
وتحيا مصر.