رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأم والابنة

 نوال السعداوى
نوال السعداوى


فى المرآة رأت نفسها واقفة ممشوقة القد. من حول رأسها هالة بلون الليل والعين واسعة كقرص الشمس، وجسمها ملفوف يتوهج بألوان الطيف، يمتد فوق الهضبة الخضراء بين البحر والنهر. تفرد ذراعيها وتحتضن الكون، وتحرك ساقيها فوق الأرض. قدماها تدبان باللحن وأنغام الصبح كأنغام الليل تحركها. عقلها لا يعرف السكون وجسدها لا يكف عن الرقص والهواء من حولها يصبح اللحن تعشقه، والنغم فى صدرها كالهواء يملؤها. وتطير فى الجو كالروح بلا جسد. تدور بالرقصة دون ردف ولا بطن وترفع رأسها فى السماء تمسك السماء ولا أحد يمسكها، وفى أذنها تسمع الدقة وراء الدقة ثلاث دقات تعرفها لا تخطئها، والوجه الصغير يطل من بين السحاب تعرفه لا تخطئه. ومن ملايين الوجوه فى الكون تميزه واليد الصغيرة تطل من الكم شاحبة بيضاء بلا دم، وأصابع الكف مفتوحة تشبه أصابعها فى ابتهال صامت أبلغ من الصوت، والعين واسعة سوداء كعين السماء فى الليل وفى صدرها تخبئها وتجرى لا تكف عن الجرى، وأقدامهم من خلفها تدب بأحذية من الحديد. فى كل كعب حدوة كحوافر الخيل، وفى يد كل منهم حجر أو آلة قتل. وهى فى صدرها مخبوءة تحت القلب. قلبها الصغير يدق الدقة وراء الدقة مع النبض وأصابعها الخمسة تنقبض وتمسك إصبع الأم، والأم تجرى تحتمى بالظلمة قبل طلوع الشمس. تأخرت الشمس فى الطلوع لتحمى الأم فى الليل والقمر أيضًا أغمض عينيه، والنجوم راحت فى النوم وانطفأ فى الكون كل ضوء. أغلق الحارس آخر أبواب القصر وتمتم بآية الكرسى، ونام الإمام وحزب الله وحزب الشيطان، والهواء نام وأوراق الشجر نامت وهى واقفة تتلفت حولها تخشى أن تلمحها عين. لم تر فى الظلمة أى عين فانتزعتها من صدرها وساوت الأرض ببطن الكف وأبعدت الطوب والحصى وفرشت الأرض بتراب ناعم كصدر الأم وأرقدتها. وجهها صغير شاحب يطل من فتحة الثوب، أسنانها تصطك من البرد. خلعت الشال الصوفى الأسود وحوطتها، لامست يدها الصغيرة أصبع الأم فأمسكته بأصابعها الخمسة لا تتركه وتركت الأم أصبعها فى يدها بطول الشهيق العميق فى صدر الأم. ونسيت أنهم وراءها والمسافة بينها وبينهم ضاقت، لكنها تركت أصبعها فى يدها لا تسحبه حتى آخر نفس وظلت واقفة تطل عليها من فوق وفى ظهرها يضربون الطعنة وراء الطعنة، والأم لا تحول وجهها عن وجه البنت. لا تستدير إليهم ومهما ضربوا لا تسقط، فهى ساقطة من قبل وسقوط السقوط صعود. ومهما تصايحوا لا تعطيهم إلا ظهرها. فهى تعرف أنهم يهربون من وجهها إذا استدارت إليهم. يخافون أن تسقط عيناها على وجوههم، فهى تعرفهم واحدًا واحدًا، ابتداءً من الإمام إلى الحارس والخفير، وجميعهم كانوا يأتون إليها فى الظلمة بوجوه تنكرية. وفى فراشها فى بيت السعادة يخلعون الوجوه المطاطية وشعر الشارب واللحية والعباءة والسروال، وتراهم واحدًا واحدًا بغير لباس ولا شارة على الكتف أو نجمة فوق الصدر. وجميعهم شكل واحد ورائحة واحدة وحركة واحدة من طرف واحد. كالهجوم بغتة والتراجع بغتة ورفع علم الهزيمة ينتصب بغتة كعرف الديك. صواريخ النصر تفرقع والهتاف يدوى وهى واقفة تحت الضوء نصف عارية ترتدى بدلة الرقص والصاجات بين أصابعها تطرقع وجسمها ساخن تحت الشمس يحتضن عقلها البارد كنصل السيف، وعيناها مفتوحتان حمراوان كعين السماء فى القيظ. ترمقهم واحدًا واحدًا وهم وقوف يغضون البصر فى الأرض. ولكل واحد منهم وجهان اثنان وجه حلو التقاطيع تنهمر الدموع من المآقى والوجه الثانى داكن اللون جاحظ العين مدبب الأنف كالسيف.
وصوتها وهى تغنى كان هو الطرب. وجسدها الممشوق كالغزال كان هو العشق. إنها لا تبالى الطعنة تأتى من الأمام أو الخلف، فهى ترقص ولا تبالى الموت، وهى ليست فى حزب الله أو الشيطان وليست بالمرأة أو الرجل وليست بالإنس أو الجن، ولكنها كل ذلك وإن سقط منها شىء يبقى الكل.
من رواية «سقوط الإمام»