رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«مش فاكرك».. كيف تلاعب يوسف شاهين بحلم تلميذه المقرب؟

يوسف شاهين
يوسف شاهين

نقلة درامية غير مأمونة النتائج تلك التى أقدم عليها المخرج يسرى نصرالله، باعتزال ساحة الكتابة والانتقال إلى ملعب الإخراج، فعلى الرغم من أن الإخراج هو حلمه الأبدى، يبقى الاستقرار المادى والعملى له حسابات أخرى، لكنه في لحظة تمرد انقلب على كل تلك القناعات وهدم كل هذه الأفكار.

وتحدث في أحد حوارته الصحفية عن رحلة الوقوف خلف الكاميرا، قائلًا:إن «روح التمرد الساكنة بداخل كل فنان وداخلى بشكل خاص كانت أحد العوامل التي جعلتني أحسم قرارى بالانتقال إلى العمل في السينما وتحديدًا الإخراج، فور أن لاحت الفرصة أمامى، دون النظر إلى حسابات الاستقرار».

«الفضل فى ذلك يعود لأستاذى العظيم يوسف شاهين، فهذا الراحل العظيم كان أول من قرع أجراس الرحيل من الصحافة إلى الفن».. القصة بدأت فصولها حين تعرفت على «جو» فى أعقاب فيلمه «إسكندرية ليه»، خلال العرض الخاص الذى نظمه الزعيم الفلسطينى الراحل ياسر عرفات في بيروت لمعرفة ما إذا كان هذا العمل يدعم التطبيع مع إسرائيل ويناصر اتفاقية السلام أم العكس، وعلى الرغم من صعوبة حضور تلك الفعالية المهمة جدًا، فإن الكاتب اللبنانى الكبير طلال سلمان أتاح لى فرصة الحضور.

حين شاهدت الفيلم لم يكن «شاهين» حاضرًا، لكنى انبهرت تمامًا بما قدمه، وعليه فورًا عرضت على طلال سلمان السفر إلى القاهرة لإجراء حوار مطول معه، وبالفعل أجريت حديثًا معه نشر فى جريدة «السفير» على عدة حلقات، وكانت هذه الحلقات جواز مرورى لديه، فقد أحدثت دويًا وصدى كبيرًا.

لاحقًا حين بدأ تصوير أحداث فيلمه «حدوتة مصرية» عام ١٩٨٢ ذهبت إليه لإجراء حوار جديد معه، وحين قابلته وجدته يقول لي: «إنت بتعمل إيه هناك في بيروت؟.. ارجع القاهرة اشتغل معايا ومرتبك ٣٠ جنيهًا في الشهر».

على الفور وافقت على طلبه وصفيت كل أعمالى في لبنان، على الرغم من أننى حينها كنت أتحصل على مبلغ مالي كبير.

حال عودتي إلى القاهرة لم أعثر ليوسف شاهين على أثر.. مثلما يقول المثل الشعبى «فص ملح وداب»، لكن بعد فترة وجيزة قابلته فى إحدى المناسبات فذهبت للسلام عليه وتحدثت معه مُذكرًا إياه بوعده لى، فوجدته يقول لى بدهشة: «إنت مين؟.. أنا مش فاكرك!».

حكيت له مجددًا ما دار بيننا من اتفاق فقال لى: «مش هينفع تشتغل معايا»، لكن وسط إصرارى طلب منّى الاطلاع على بعض السيناريوهات وقرأتها بصورة جيدة أو بالأدق مذاكرتها تمهيدًا لبدء العمل معه.

بعدها بفترة حدثنى قائلًا: «خلاص هتشتغل معايا.. لكن إياك تكتب وتقول حاجة». وقتها كان يجهز لفيلم «وداعًا بونابرت»، وخلال الثلاث سنوات من عام ١٩٨٢ حتى ١٩٨٥ كنت قد شربت سر صنعة الإخراج السينمائى وتعلمت الكثير من أسرارها، ولم أكتفِ بذلك فقط، فقد خضت غمار الكتابة أيضًا على الرغم من أنها تجربة محفوفة بالمخاطر.

إقدامى على خوض تجربة الكتابة حالة طبيعية جدًا لمن هُم فى مثل موقفى، فالكتابة كانت حرفتى فى وقت ما، بجانب أننى أمتلك كثيرًا من الحكايات والأحداث، وقد ظهر ذلك بصورة واضحة فى عملى الأول «سرقات صيفية»، فعلى الرغم من أننى واجهت حينها بعض الانتقادات حيث اعتبرها البعض مجرد سيرة ذاتية، لكن ذلك لم يمنعنى من تكرار التجربة فى أفلامى التالية.

سنوات القرب من يوسف شاهين أثرت فىّ كثيرًا، فالشغف بما تقدمه والاهتمام بأدق التفاصيل كانتا أهم صفتين تعلمتهما منه، ففى كل عمل يبدأ تصويره كان يتعامل مع الفيلم دائمًا باعتباره أكبر منه، وليس العكس، وكأنه يخوض هذا التحدى لأول مرة، وتلك لقطة أخرى أضافها إلىّ، فهو رجل كان فاهمًا ومدركًا ما يفعله، ودائمًا ما كان يردد أنه يبحث عن المفاجأة أثناء تصوير أعماله، ولذلك وقت أن يصل إليها كنت أراه فى قمة النشوة.

لكنى أعتقد أن أهم صفة فيه كانت تقديره المواهب الحقيقية، فذات مرة سألته عن سر احتفاظه بصداقته مع كمال الطويل على الرغم من كونه شخصًا ذا طبع مزعج تطارده عقدة الاضطهاد ولديه شعور دائم بالإحساس بالظلم، فأجابنى باختصار «لأنه موهوب»، وكان ذلك درسًا آخر تعلمته منه، هو أن عملك كمخرج يتطلب منك أن تحيط نفسك بمجموعة من الموهوبين وليس عليك إلا أن تتحمل مساوئهم.