رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

طوبار.. العازف على أوتار القلوب «3-3»


المستمع الخبير، يعرف أن «طوبار» يتحسس جمهوره فى الدقائق الأولى، ويختبر رغبة المستمعين المحتشدين، ومدى وعيهم بفنون التلوين النغمى، والأداء الطربى، وبقدر تجاوب الجمهور مع هذا الأداء يكون عطاء «طوبار»، طربًا، وثراءً، وإشباعًا، للمتعطشين إلى فن يتسم بالتركيب، ويبتعد عن الاستسهال، وبعبارة أوضح، فإن الشيخ «طوبار»، وخلال الوقت القصير الذى يقضيه مع بعض جمهوره قبل بدء الحفل، يُكوِّن رؤية عامة عن طبيعة هذا الجمهور وميوله الفنية، أهو من النوع الذى يميل إلى الابتهال والخشوع والضراعة والتباكى؟ أم من محبى الطرب، والسلطنة، والانتقالات المقامية، والإجادة التلحينية؟
مع الدقائق الأولى للوصلة الطوبارية، يتأكد الشيخ تمامًا من تقديراته الأوليّة، ويُعطى الجمهور ما يريد، ولعلَّ هذا ما يفسر حالة التجاوب الجماهيرى الدائم مع الشيخ «نصرالدين طوبار»، سواء فى الفجر أو فى الاحتفالات الرسمية بالمساجد الكبرى، أو فى الليالى التى يُحييها فى أنحاء القطر المصرى. وفى مئوية ميلاده، قدمت منصة «ذات مصر» نموذجًا، لهذه اللقاءات، التى كان «طوبار» يتألق فيها ويبدع، حيث استمع الجمهور إلى جزء من تسجيل شديد الندرة، لجلسة بمنزل القارئ الشيخ «إبراهيم الشعشاعى» صديق «طوبار» المقرب، وبحضور عدد من مشاهير المنشدين، ومن أبرزهم «محمد عمران»، و«ممدوح عبدالجليل»، الذين تظهر أصواتهم وهم يتجاوبون مع «طوبار» ويستعيدونه. ومن الألوان التى تميز فيها الشيخ «نصرالدين طوبار»، الأناشيد الدينية، بمصاحبة الآلات الموسيقية، حيث سَجَل للإذاعة عددًا منها، ومن هذه الأناشيد «يا خالق الكون ورب السماء»، و«الله رب الوجود»، و«قطرة من نداك». كان الشيخ «نصر الدين طوبار» متطلعًا لتعلم الموسيقى، وفى زيارة لمنزل الموسيقار «محمد عبدالوهاب»، قال له موسيقار الأجيال: أنا استمعت إليك فى الراديو، وأنت تنشد من مسجد الحسين توشيح «أضاء النور وانقشع الظلام» للشيخ «على محمود»، فلمَ لا تدرس الموسيقى لتكون واعيًّا بما تؤديه؟ وبالفعل، التحق «طوبار» بالقسم الحر بمعهد الموسيقى العربية، ولمدة ٣ سنوات، درس الأدوار والموشحات على يد الأستاذ «عبده قطر»، ودرس «الصولفيج» على يد الأستاذ «أمين فهمى»، وتلقى أصول العزف على العود على يد أحد أعلامه، وهو الأستاذ «جورج ميشيل»، وظلَّ الشيخ لآخر حياته وثيق الصلة بآلة العود، ويكاد يعزف عليها بصفة يومية، كما اقتنى الشيخ عددًا من الأعواد، وكان يغير أطقم أوتارها بنفسه، ويوزنها بدقة، وفى حقبة السبعينيات، أبدى الرئيس الراحل «محمد أنور السادات» رغبته فى إنشاء فرقة للإنشاد الدينى، تكون تابعة لأكاديمية الفنون، كما أبدى رغبته فى أن يترأس الشيخ «طوبار» هذه الفرقة، وأن يقودها فى الحفلات الدينية، لا سيما الرسمية منها، وبالفعل تكونت الفرقة وترأسها الشيخ «طوبار» حتى وفاته. ظلَّ الشيخ «طوبار» طوال حياته يجمع بين تلاوة القرآن والإنشاد الدينى، رغم اعتماده إذاعيًّا وتليفزيونيًّا على الإنشاد لا التلاوة، لكنه استمر فى قراءة القرآن، وقبول الدعوة لإحياء الليالى والمآتم، وكانت تلاوته مؤثرةً جدًا، يبكى لها المستمعون، لكن شخصية المنشد كانت تطغى أحيانًا على شخصية القارئ، وحتى فى التسجيلات الأخيرة، التى صدرت لـ«طوبار» بعد موافقة الأزهر، وتميزت بدقة أحكام التجويد، فإننا نجد الشيخ يبدأها بطريقة وقورة، وعلى السمت الموروث فى التلاوة المصرية، لكنه وبالتدريج يذهب إلى أسلوبه الإنشادى الغنائى. وعلى الرغم من أنَّ كثيرين يحبون طريقة «طوبار» فى التلاوة، ويعتبرونها مثالًا للخشوع والتأثر، فإن هذه الطريقة كانت الحاجز الوحيد بينه وبين الاعتماد قارئًا للقرآن بالإذاعة، وهو ما يُوضح بجلاء مدى دقة الفرز عند لجان الاستماع فى خمسينيات القرن الماضى، إذ لم يكن الحفظ وسلامة أحكام التجويد وحسن الصوت مسوغات كافية للاعتماد الإذاعى إذا كان القارئ يتلو بطريقة تخالف ما توارثه شيوخ هذا الفن كابرًا عن كابر، وكان محبو قراءة الشيخ «طوبار» يحتشدون مبكرًا كل يوم جمعة بمسجد الخازندار بمنطقة شبرا، حيث عُيّن الشيخ قارئًا للسورة.
انتشر صوت «طوبار» فى ربوع مصر، ومنها إلى أنحاء العالم الإسلامى، وتعددت زياراته للدول العربية والإسلامية، بل ودُعى إلى عدد من الدول الغربية، من أهمها الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وكندا وبريطانيا، حيث أنشد على مسرح قاعة «ألبرت» فى لندن، وبلغ أثر صوت الشيخ على القلوب إلى درجة أن يُسلم لسماعه من لا يفهم اللغة العربية. انتشرت الشائعات حولَّ اصطحاب الرئيس «السادات» الشيخ «طوبار» معه فى رحلته إلى القدس عام ١٩٧٧، وقد زادت هذه الشائعة انتشارًا بعد أنّ ركّبَ أحدهم تسجيلًا لتكبيرات العيد بصوت الشيخ «طوبار» على فيديو للرئيس «السادات» وهو يؤدى صلاة العيد بالمسجد الأقصى، ثم ترسخت أكثر بعدما بثها أحد مذيعى إذاعة القرآن، فى حلقة خاصة عن الشيخ، تضمنت من الأخطاء المنقولة من مواقع الإنترنت أكثر مما تضمنت من الصواب.
فى يوم ١٦ نوفمبر عام ١٩٨٦، توفى الشيخ «نصرالدين طوبار»، عن ٦٦ عامًا، قضى منها ٣٠ عامًا منشدًا شهيرًا بالإذاعة والتليفزيون، ويوم وفاته بكاه الملايين من محبى صوته فى ربوع مصر وقراها، وفى المساء أُقيم سرادق ضخم للعزاء بجوار منزل الشيخ بمنطقة شبرا، واحتشد كبار القراء والمنشدين لوداع الرجل، الذى صار جزءًا من الوجدان الشعبى، وفى العزاء تناوب كبار القراء أدوارهم فى التلاوة، على رأسهم الشيخ «عبدالباسط عبدالصمد»، وتطلعت الأنظار إلى صديق العمر ورفيق الرحلة الشيخ «إبراهيم الشعشاعى»، الذى اقترن اسمه باسم الشيخ «طوبار» فى كل المحافل ولعقود الطويلة، لكن الشيخ «الشعشاعى» كان فى حالة عميقة من الحزن، لم يستطع معها أن يعتلى دكة التلاوة، فاختار أن يقف مع أفراد الأسرة لتلقى العزاء والمواساة. ورغم مرور عقود على رحيل طوبار، فإنه ترك فراغًا لم يملؤه أحد، وما زالت الجماهير تحن لصوته الرقيق، وأدائه الخاشع، ويشعرون مع ابتهالاته بالرحمة والسكينة، وتنساب دموعهم مع مناجاته، وترق قلوبهم لتوسلاته: «إنّ لم ينل منك العليل شفاءه منًا وفضلًا لم يفز بشفاء.. إنّ لم تكن بك للغريب هداية طال الطريق على الغريب النائى.. إنّ لم تكن منك المعونة لم يفز أحد من الدنيا بنيل رجاء.. سبّحت باسم علاك يا رب.. فإذا سكت اللسان لسبّحت أعضائى».