رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الصعود المفاجئ والانحدار السريع «7»



أتوق للشمس، لمكان فيه ضوء، اختنقت من العتمة والرطوبة، من الجحر الذى كنا نعيش فيه، التلافيف والسراديب، أتوق للصف الأول، أن يكون لنا بيت على الطريق الرئيسى، أشعر بمعاناة رفاقى عندما يصلون لبيتى.. فكثيرًا ما ينسوننى فى اللعب، علىّ أن أراقب دائمًا، أن أراقب كى لا تفوتنى أية متعة.
تظل البدايات توجه خطوط سيرك، مهما تشابكت أو تفرعت واعتقدت أنك راوغت الزمن ستجد الحكَم فى نهاية المباراة يطلب أن تعود لنقطة البداية.. اختار لى أبى التعليم الأزهرى لأنه لا يحتاج مصاريف كثيرة، وأبى لديه عائلة كبيرة قادرة على التهام أى دخل، أولاد وبنات، وعمتان واحدة أرملة والأخرى مطلقة وأبى عائلهما الوحيد.
لا توجد صورة تجمعنا، صورى كلها الصور المطلوبة للامتحانات، لم نكن نهتم إلا بما يسد جوعنا أو يستر عرينا.. الضرورة، الضرورة، حد الكفاف والستر، أبى مثل القطار منضبط ومنتظم، لم يدخل التليفزيون إلى بيتنا إلّا بعد أن تحصّل أبى على ثمنه نقدًا، لا يريد التقسيط، كل الأجهزة نشتريها بعد سنوات من ظهورها واستعمالها لدى أصحابى حتى يدخر أبى ثمنه، لا يريد أن يكون مدينًا لأحد.
يرفض حتى هذه الساعة قبول ما أُرسله له من نقود، لا يريد أن يكون عالة على أحد، لا يريد أن يكون مدينًا لأحد، أقول له: «أنت ومالك لأبيك وما أنا فيه بركة دعائك»، فيرد: «اليد العليا خير من اليد السفلى»، لا يريد أن يثقل علىّ أو حتى يمنحنى شرف أن أساعده، لا يعلق على ما وصلت له، لا يجعله فخورًا أو متباهيًا أن يصبح ابنه من الدعاة المعدودين، نجوم الفضائيات، يشيح بيده: «ما كل هذه الدوشة!!»، لا يستمع إلّا لإذاعة القرآن الكريم والقراء المصريين، «ما هذا الزعيق».. لم يحب الشيخ كشك وشرائطه، الشرائط الوحيدة لديه لمطربته المفضلة «عفاف راضى»، يؤدى الفروض فى المنزل ولا يذهب للمسجد سوى للصلاة يوم الجمعة.
فى البداية كنت متضايقًا من الزى الأزهرى، لكنى اكتشفت منافعه.. المعرفة بالقرآن والأحاديث النبوية تكسبك سلطة قوة تجعل الآخرين، الجيران والأقارب، يستمعون إليك، لديك أحاديث وحواديت كثيرة، كطفل ومراهق تبهرنى الألغاز الفقهية، تصبح مصدرًا للتميز وللظهور أمام أقرانى فى الشارع: ماذا تقول فى رجل مسلم عاقل بالغ غير جاهل أهديت له ميتة فأكل منها وهو غير جائع ولا مضطر وكان فى ذلك غير آثم؟ أكل سمك بجد؟ صح.. واحدة كمان، قول واحدة كمان، تنتفخ أوداجى وأسمع ما أحفظ: ما تقولون فى رجل مسلم قادر بالغ عاقل صلى ولم يسجد فى صلاته سجدة واحدة متعمدًا وصحت صلاته؟ هذا رجل يصلى على الجنازة وصلاة الجنازة ليس فيها ركوع ولا سجود.
يسكت الرفاق، يبدو أنهم غير مقتنعين، أنتبه، لم يسبق لأحد منّا أن صلى صلاة الجنازة، كما أن رائحة الموت ثقيلة حتى فى الأحاجى، فأتعلم أن أختار ما أقول، وألا يكون صادمًا مع معتقداتهم، وأختار من المختلف ألطفه وأغربه وما لا يفتح بابًا للجدال والنقاش: ماذا تقول فى رجل جامع زوجته فى نهار رمضان متعمدًا وليس عليه إلا القضاء ولا تلزمه الكفارة؟ هذا رجل سافر مع زوجته وهما صائمان ثم بدا له أن يجامعها فيجوز له ذلك لأنه مسافر، والمسافر يجوز له الفطر فى نهار رمضان، يسخر رفاقى: يعنى هما مسافرين فين؟ ومسافرين كام ساعة؟ يا سلام يعنى هو سايب بيته ورايح ينام معها فى الشارع.. هذه المسائل بعيدة عما نعيشه، عن الطائرات والزحام والأتوبيسات، مدرجات الجامعة، وما كان مثارًا للتباهى يصبح حاكًا فى الصدر، مع ألغاز ومسائل فقهية لا يمكن النظر لها بجدية، مثلها مثل مَن يقول لك هل تعلم أن أطول، أكبر، من قال؟ من اخترع؟
ما يعيب هذه المعارف أنها لا تُقدم بنية دافعة للتفكير والتأمل، هذه معارف مغلقة لا تساعد على النقاش أو طرح الأسئلة، كما أنها تعطى من يحفظها إحساسًا وهميًا بالقيمة والامتلاء والاستعلاء.. لكنها لا تستطيع أن تقدم اكتشافًا فى الطب، دواءً يخفف الألم، حلًا لمشلول، معاق، لا يمكنها أن تجد علاجًا لشقيقتى «صباح» التى يكبل شلل جسدها روحها.