رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«سد النهضة» بين حرب الفشقة ومعارك تيجراى


اشتباكات الحدود بين إثيوبيا والسودان بمنطقة «الفشقة» تزامنت مع حرب حكومة أبى أحمد ضد قومية التيجراى مدعومة داخليًا من قومية الأمهرة، وخارجيًا من إريتريا، كل ذلك وسط تفاقم أزمة «سد النهضة» التى دخلت شهورها الحاسمة بإعلان إثيوبيا تصميمها على الملء الثانى للسد فى يوليو ٢٠٢١، فى مواجهة الرفض القاطع من السودان ومصر.. شرق إفريقيا على سطح صفيح ساخن.

اتفاق ١٩٠٢ وقعته بريطانيا نيابة عن مصر والسودان، باعتبارهما مستعمرتين تابعتين لها، وقعه عن إثيوبيا الإمبراطور منليك الثانى كممثل لدولته المستقلة، تعهد فى الاتفاق بعدم إقامة أى سدود أو منشآت على فروع النيل، يمكن أن تؤدى إلى تأخير أو منع وصول المياه لمصر والسودان. بريطانيا منحته إقليم بنى شنقول السودانى مقابل التزامه، واكتفت بتأكيد أن حدود السودان تضم إقليمى الفشقة الكبرى والصغرى.. فى اتفاق عام ٢٠٠٨ اعترفت إثيوبيا بالحدود القانونية مع السودان، التى تقع داخلها منطقة «الفشقة».. السودان توصل، خلال اجتماع الرئيس السابق «عمر البشير» مع رئيس الوزراء الإثيوبى السابق هايلى ماريام ديسالين عام ٢٠١٧، إلى اتفاق كامل على ترسيم الحدود وفقًا للاتفاق، ولم يتبق سوى وضع العلامات، ما دفع السودان للتسامح وترك الإثيوبيين يعيشون ضيوفًا على أراضيه.

اتفاق ٢٠٠٨ بدأ فى الانهيار بعد إزاحة جبهة تحرير شعب تيجراى التى وقعته إبان وجودها فى السلطة عام ٢٠١٨.. زعماء قومية الأمهرة أدانوا الاتفاق، معتبرين إياه بمثابة صفقة سرية ما بين التيجراى والسودان، لتعزيز وضعيتهم السياسية، والإضرار بهم، بحكم انتماء الإثيوبيين الذين يقطنون «الفشقة» طوال تلك السنوات لقوميتهم.. المنطقة شهدت توترات متصاعدة منذ مارس ٢٠٢٠، حتى وصلت إلى الكمين الذى نصبته إثيوبيا لدورية عسكرية سودانية، ما دفع الأخيرة إلى تطهير واستعادة ٩٠٪ من المنطقة، وطرد أكثر من ١٠ آلاف مستوطن إثيوبى، ولم يتبق سوى ٣ نقاط، يأمل السودان استردادها بالتفاوض حتى لا يضطر لنزعها بالحرب.. رغم تصديق إثيوبيا على اتفاقية فيينا للتوارث الدولى لعام ١٩٧٨، فإنها طالبت بإعادة التفاوض على الحدود، بدعوى أن اتفاق ١٩٠٢ لم يكن يمثلها! وأغفلوا أن ذلك يعطى السودان حق وضع يده على إقليم شنقول الذى يقع به «سد النهضة»، لأن الاتفاق هو السند القانونى الوحيد لانتزاعه من السودان.. إثيوبيا تلجأ للمكايدة السياسية لتحقيق مكاسب استراتيجية.

إثيوبيا بلغت قمة تعنتها مطلع يناير ٢٠٢١، عندما أكدت اعتزامها الملء الثانى لسد النهضة فى يوليو، بغض النظر عن التوصل لاتفاق مع دولتى المصب من عدمه، ونفت التزامها بالإخطار المسبق بإجراءات الملء والتشغيل وتبادل البيانات.. السودان حذر من تنفيذ ذلك دون الاتفاق على آلية تنسيق ملزمة بين البلدين، لأنه يعنى أن الحياة على ضفتى النهر وكل السدود السودانية وأراضى الجزيرة بما فيها العاصمة الخرطوم ستصبح رهينة للسد، سواء فى حالة انهياره المحتمل، أو احتمال استخدامه كسلاح تعطيش أو إغراق للضغط على السودان، طمعًا فى أراضيه التى استردها مؤخرًا.

الأزمة تحمل فى طياتها مبررات تفاقمها، فالتصعيد قد يعنى من جهة دعم إثيوبيا لمتمردى جنوب كردفان، ومحاولة قومية الأمهرة إعادة احتلال الأراضى السودانية المحررة فى «الفشقة»، مقابل مشاركتها الحاسمة فى حرب تيجراى، وأبى أحمد قد يتحمس لذلك دعمًا لشعبيته.. الرد السودانى قد يتضمن دعم متمردى تيجراى وبنى شنقول، والمكون العسكرى بمجلس السيادة الذى حقق مكاسب شعبية هائلة بدفاعه عن سيادة السودان على أراضيه الوطنيه، لن يتراجع عن مواجهة أى تصعيد بالمثل.. أزمة دولية خطيرة، متعددة الوجوه والميادين والأطراف، مصر فى القلب منها، بحكم تأثرها بـ«سد النهضة»، وعلاقتها الاستراتيجية مع السودان، ما يفرض تقدير موقف الأطراف الفاعلة الإقليمية والدولية منها.

إريتريا تورطت فى دعم إثيوبيا ضد إقليم تيجراى إلى حد المشاركة المباشرة فى الحرب، وذلك بفعل تخوفات أسمرة من نجاحه فى إسقاط حكومة أبى أحمد، واستئناف الحرب والأعمال العدائية التى سبق أن استمرت ضد إريتريا قرابة العامين.. الموجة الأخيرة من معارك الجيشين الإثيوبى والإريترى ضد جبهة تحرير تيجراى وقعت قرب نقطة تلاقى حدود البلدين مع السودان، ما هدد بتوسيع نطاق الحرب، والجيشان الإثيوبى والإريترى ما زالا يعززان وجودهما العسكرى قرب منطقتى الديمة وحمدايت التابعتين لولاية كسلا السودانية، كما رصد الجيش السودانى حشودًا عسكرية لقوات إريترية بمنطقة «أم حجر» على الحدود.. السودان أرسل وفدًا رفيعًا إلى إريتريا برئاسة نائب رئيس مجلس السيادة محمد حمدان دقلو «حميدتى»، فى محاولة للسيطرة على تداعى الأحداث فى المثلث الحدودى، وتطويق احتمالات توسيع نطاق الحرب.

إثيوبيا تدرك أن التشدد والتصعيد اللذين تمارسهما فى أزمتى «الفشقة» وسد النهضة يهددان بمواجهة عسكرية واسعة مع السودان، طرفًا مشاركًا فيها، ما يفسر دعوتها تركيا للتوسط بينها وبين السودان، لحل تلك الأزمات، هذه الدعوة تتسم بالمكايدة السياسية، لأن أديس أبابا تدرك أن تركيا لا تربطها بالسودان علاقة جيدة، منذ طردها من جزيرة «سواكن»، التى تمركزت فيها بموجب اتفاق وقعته مع حسن البشير، وتم إلغاؤه بعد الثورة، ثم إن تركيا ليست الحليف القادر على تغيير التوازنات، لأنها لم تجرؤ على تجاوز الخط الأحمر «سرت- الجفرة» الذى حددته مصر لقواتها والمرتزقة التابعين لها فى ليبيا.. إثيوبيا تبحث عن حلفاء فى مواجهة السودان ومصر، ولم تجد سوى تركيا، التى تتعرض علاقاتها مع مصر والسودان لتدهور حاد.

مستشار رئيس جنوب السودان توت قلواك أعلن أن رئيس مجلس السيادة السودانى عبدالفتاح البرهان ورئيس الوزراء الإثيوبى أبى أحمد سيزوران «جوبا» قريبًا، لبحث النزاع الحدودى بين بلديهما بشكل منفصل مع الرئيس سلفا كير، تمهيدًا لعقد قمة ثلاثية تجمعهما.. لكن إثيوبيا اشترطت انسحاب القوات السودانية تمامًا من أرض «الفشقة»، ووقف عمليات تهجير الإثيوبيين التى بدأت منذ ٦ نوفمبر الماضى.. السودان رفض بشدة، واشترط لقبول أى وساطة البدء فى وضع العلامات الحدودية المُرسمة سلفًا.

السودان من جانبه يسعى لتعزيز موقفه السياسى، فى مواجهة إثيوبيا، من خلال حملة دبلوماسية واسعة، تستهدف ضمان مساندة دول الخليج.. الوفد السودانى برئاسة عضو مجلس السيادة محمد الفكى سليمان، التقى فى الرياض وزير الخارجية السعودى، مؤكدًا أحقية بلاده فى بسط سيادتها على كل أراضيها، طالبًا مساندة جهود وضع العلامات على الحدود الدولية مع إثيوبيا.. بعدها وصل وزير الدولة السعودى لشئون الدول الإفريقية أحمد بن عبدالعزيز قطان إلى الخرطوم، ليؤكد أن الرياض «تقف بقوة مع الأمن المائى للدول العربية»، كاشفًا عن سعى المملكة إلى إنهاء هذا الملف بالشكل الذى يضمن حقوق الدول الثلاث.

«حميدتى» نائب رئيس مجلس السيادة السودانى التقى أمير قطر فى الدوحة، فى أول زيارة لمسئول سودانى رفيع منذ عزل البشير، السودان استثمر واجهة المصالحة الخليجية، ليعيد العلاقات مع قطر لمسارها الطبيعى، خاصة أن الدوحة كانت راعية اتفاق السلام عام ٢٠١١، الذى رفضته حركات التمرد فى إقليم دارفور، الذى شهد مؤخرًا عودة الاقتتال على خلفيات عرقية وقبلية.. ورغم فشل مشروع الدوحة لدعم الإسلام السياسى فى السودان، بعد حملة تطهير مؤسسات الدولة، فإن قطر تحرص على تأمين استثماراتها فى السودان، التى تقدر بنحو ٣.٨ مليار دولار، لتأتى فى المرتبة الخامسة بين الدول الأجنبية التى تستثمر فى البلاد.

دور الإمارات أيضًا لا يمكن إغفاله، لأنها كانت صانعة السلام بين أديس أبابا وأسمرة فى يوليو ٢٠١٨، وتمتلك أوراقًا جيدة للضغط على إثيوبيا فى قضية سد النهضة، فقد قدمت لها عام ٢٠١٨ حزمة دعم قدرها ثلاثة مليارات دولار، تتألف من مليار دولار وديعة فى البنك المركزى الإثيوبى، وتعهدت بمليارى دولار فى هيئة استثمارات.

السودان وعد بالمصادقة على ميثاق الدول العربية والإفريقية المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن فور تشكيل المجلس التشريعى، ضمانًا لدعم التكتل الخليجى، الذى يمتلك أوراق ضغط فعالة، قادرة على إحداث تغيير فعال فى الموقف الإثيوبى من قضيتى الحدود السودانية الإثيوبية و«سد النهضة».. قد تمنع حربًا، وربما تحقن دماء.. ولكن هل تتوفر الإرادة السياسية لذلك؟!.. هذا ما ستكشفه الأيام.

تقدير الموقف الإسرائيلى والأمريكى والأوروبى، خاصة البريطانى من الأزمة سيكون موضوع مقال الجمعة المقبل إن شاء الله.