رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

آخر تماثيل فرانكو




الإسبان قاموا بتغيير أسماء كل الشوارع التى كانت تحمل اسم فرانثيسكو «أو فرانسيسكو» فرانكو، وأزالوا كل تماثيله من ميادينها، لكنهم تركوا، حتى ساعات مضت، تمثالًا وحيدًا، أقيم على جثث عشرات الآلاف من المغاربة، الذين قتلتهم قواته، والقوات الفرنسية، فى عشرينيات القرن الماضى.
بهدوء، هدموا المنصة التى عليها التمثال، ثم رفعوه بسلسلة حول رقبته وحملوه على شاحنة صغيرة. وهكذا، أزيل آخر تماثيل الديكتاتور الإسبانى، أمس الأول الثلاثاء، من أمام بوابات مليلية، التى تطالب المملكة المغربية، منذ استقلالها سنة ١٩٥٦، باستعادتها هى ومدينة سبتة، ولا يزال ملف المدينتين مطروحًا أمام الأمم المتحدة فى باب تصفية الاستعمار، وجرت العادة على مناقشته فى الزيارات الرسمية المتبادلة بين البلدين: المغرب وإسبانيا!
أقيم ذلك التمثال سنة ١٩٧٨ أى بعد ثلاث سنوات من وفاة فرانكو، تخليدًا للدور الذى لعبه حين كان قائدًا للفيلق الإسبانى فى «حرب الريف»، مع أن ذلك الدور يستوجب الاحتقار، لا التخليد، ومع أن صمود المغاربة، كان حالة استثنائية فى تاريخ الحروب الاستعمارية. وفوق ذلك، أكدت مصادر تاريخية عديدة أن الأمير محمد بن عبدالكريم الخطابى، زعيم قبائل الريف، كان بإمكانه منع القوات الإسبانية والفرنسية من دخول المدينة، لكنه آثر الاستسلام، حفاظًا على أرواح أهلها.
غير دوره فى تلك الحرب، كان فرانكو أحد قادة انقلاب ١٩٣٦، الذى أطاح بالجمهورية الإسبانية الثانية، وتسبب فى الحرب الأهلية الإسبانية، التى انتصر فيها بمساعدة ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية، سنة ١٩٣٩، وتولى على إثرها الحكم، حتى وفاته فى ٢٠ نوفمبر ١٩٧٥. ومن وقتها، لا يزال الإسبان يحاولون التخلص من إرثه أو شبحه، لدرجة أن المحكمة العليا الإسبانية قضت، فى ٢٤ سبتمبر ٢٠١٩، بإخراج رفاته من وادى الشهداء، وإعادة دفنه فى مكان آخر!
تقع مدينة «أو جيب» مليلية فى شرق المغرب، قرب الحدود الجزائرية، وقبالة الساحل الجنوبى لإسبانيا. وتزيد مساحتها قليلًا على ١٢ كيلومترًا مربعًا، ويسكنها حوالى ٧٠ ألفًا. وظلت جزءًا من إقليم ملقة الإسبانى، إلى أن صارت، فى ١٤ مارس ١٩٩٥، إقليمًا يتمتع بالحكم الذاتى. أما قصة سقوطها فى يد الإسبان، فبدأت سنة ١٤٩٧ بعد سقوط إمارة بنى الأحمر فى غرناطة.
تخلل السقوط والحكم الذاتى، فصول كثيرة من الصراع، كان أبرزها حين ثار سكان منطقة الريف، شمال المغرب، فى ١٨ سبتمبر ١٩٢١، وأعلنوا استقلالهم على الحماية الإسبانية. وبعد أن هزموا الإسبان فى معركة أنوال، أسسوا فى ١ فبراير ١٩٢٣ «الجمهورية الاتحادية لقبائل الريف»، برئاسة الأمير محمد عبدالكريم الخطابى، وأرسلوا وفودًا رسمية إلى بريطانيا وفرنسا للتعريف بالجمهورية وإقامة علاقات دبلوماسية. لكن فى يونيو ١٩٢٥ عقدت إسبانيا تحالفًا مع فرنسا، وقامت قوات البلدين، بغزو الجمهورية الوليدة، فى ٢٧ مايو ١٩٢٦، وقصفتها الطائرات الإسبانية بقنابل تجريبية كيميائية، ما اضطر «الخطابى» إلى الاستسلام وتسليم نفسه للقوات الفرنسية، فتم نفيه إلى جزيرة لارينيون، التى تقع فى المحيط الهندى شرق مدغشقر.
بعد عشرين سنة فى المنفى، تقرر نقل «الخطابى» إلى فرنسا، لكن أثناء مرور السفينة الأسترالية، التى كانت تحمله، بمدينة بورسعيد، طلب اللجوء السياسى إلى مصر، وظل مقيمًا بها وتم دفنه فى مقابر الشهداء بالقاهرة. ومنها، وعبر إذاعة صوت العرب، ساند الشعب المغربى فى نضاله ضد الحماية الإسبانية والفرنسية، وظل يدعم الحركات التحررية فى الجزائر وليبيا وتونس، إلى أن رحل فى ٦ فبراير ١٩٦٣، أى بعد ٧ سنوات من استقلال بلاده، باستثناء مدينتى مليلية وسبتة، ومنذ ذلك التاريخ، لا ينافس المزايدين المغاربة، غير التونسيين، فى مطالبة المصريين، أو «المصاروة»، بفتح الحدود، حتى يتمكنوا من الذهاب إلى القدس وتحريرها!
حاول المغاربة مرارًا استعادة المدينتين، لكن حال دون ذلك عدم قدرتهم على فتح جبهتين فى وقت واحد. ولهذا السبب، وحتى لا يفتح المغرب جبهة سبتة ومليلية، تريد إسبانيا أن يظل مشغولًا بجبهة «منطقة الصحراء الغربية»، وتقوم بالضغط على الإدارة الأمريكية الجديدة، لكى تتراجع عن اعتراف الإدارة السابقة، فى ١٠ ديسمبر الماضى، بسيادة المملكة على تلك المنطقة. مع أن الاعتراف الأمريكى، لم يقدم أو يؤخر، واستقبله أبى بشرايا البشير، ممثل جبهة البوليساريو فى أوروبا، بأن أكد لوكالة رويترز أنه «لن يغير من واقع النزاع وحق شعب الصحراء فى تقرير مصيره». ولعلك تعرف أن جبهة البوليساريو تسعى إلى إقامة دولة مستقلة تحت اسم «الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية»، منذ سبعينيات القرن الماضى!
إلى غير رجعة، وبعد ٤٣ سنة، أزيل آخر تماثيل فرانكو من أمام بوابات مليلية، وننتظر أن يحل محله، قريبًا، تمثال لمحمد عبدالكريم الخطابى، بعد أن تعود المدينة إلى حضن المملكة المغربية.