رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حول الفقر الاختيارى.. لمن يهمهم الأمر «2-2»


استكمالًا لما جاء فى كتاب «فردوس الآباء»، قال أحد شيوخ البرية: «إذا جلست فى مكان، ورأيت قومًا من المتكنزين وهم ينوءون بأحمالهم من المؤن، فلا تنظر إليهم، أما إذا صادفك إنسان مُعدم محروم، فتطلع إليه، وخفف من بؤسه وبؤسك، فقد يكون أكثر احتياجًا منك إلى رغيف الخبز الذى فى يدك!».
مما يُذكر عن أحد شيوخ البرية وهو الأنبا إسحق أنه اعتاد أن يغلظ الكلام للرهبان الجدد، فكان يقول لهم: «لقد اعتاد آباؤنا أن يرتدوا الثياب البالية المهلهلة، المتعددة الرقع، فى حين أنكم تلبسون فى الوقت الحاضر من الملابس أغلاها وأبهاها، فابتعدوا عن هذا المكان، ما دمتم قد بهرتكم النفاية، وآثرتم الغث على السمين، ولذلك لن أقدم لكم أى إرشادات أو وصايا، لعلمى أنكم لن تحصلوا عليها، أو تعملوا بها!». ولعل كلام هذا الشيخ الوقور مطلوب جدًا فى أيامنا هذه، بعد أن لاحظ الشعب الملابس الفاخرة التى يرتديها الأساقفة وكثير من الرهبان. وأذكر أن البابا كيرلس السادس كان لديه فقط اثنان من ملابس الخدمة البيضاء «وتحمل اسم التونية»، وكانتا فى غاية البساطة.
ويذكر لى أحد شمامسة الكنيسة المرقسية الكبرى بالأزبكية أنه ذهب للصلاة ليلة العيد مع البابا كيرلس السادس بالكنيسة المرقسية بالأزبكية، لكن رئيس الشمامسة فى ذلك الوقت منعه من الصلاة لأنه حضر متأخرًا!! وكان التأخر بسبب ظروف عمله فذهب إلى البابا كيرلس يشتكى له مما حدث معه، فقال له البابا: «طيب يا حبيب أبوك ما تزعلش سوف أعطيك تونيتى، لكن أرجو أن ترجعها لى مرة أخرى لأنى لا أملك غيرها!!».
وعندما كنا نصلى مع البابا كيرلس بدير مارمينا وبعد انتهاء الصلاة ويخلع البابا كيرلس ملابس الخدمة البيضاء والتى نكاد نعصرها من الماء الذى بها لأن البابا كان يصلى بجهاد عظيم وبحماس أشد- كنا نأخذ تلك الملابس ونضعها على شماعة لتنشف من العرق الذى بها، لأنه لم يكن لديه غيرها! عاش حياته راهبًا بمعنى الكلمة، حتى إن الزجاج المكسور بنافذة شباك حجرته البسيطة أغلقه بأوراق الصحف منعًا لتسرب الهواء!! وعندما زاره سفير الفاتيكان فى حجرته البسيطة وأراد أن يجددها له، قدم له البابا كل الشكر.
وأتذكر أنه فى بداية إقامته بطريركًا قامت مجلة «آخر ساعة» بنشر صور للحجرة التى كان يقيم بها، ومنها نافذة الشباك المُغلقة بأوراق الصحف، وأتذكر أن والدى قام باستدعائنا نحن أطفاله «إذ كان والدى يعرفه منذ عام ١٩٤٣ عندما كان راهبًا بمصر القديمة»، وقال لنا: «شوفوا البطريرك بتاعنا إنسان بسيط إزاى»، كنا فى ذلك الوقت أطفالًا فانطبعت فى مخيلتنا الصورة التى يجب أن يكون عليها البطريرك. كما نشرت المجلة صور المقر الذى كان يقيم به، كان يُسمى «القلاية»، لأن الذى يقيم بها راهب بسيط لا يطلب شيئًا من مباهج الدنيا، وكل رسالته هى رعاية شعبه فردًا فردًا دون تمييز.
لم يكن له مقر فخم ولا منتجعات!!، لأن أولاده الذين يرعاهم بأبوة يعانون من الفقر!! لم يكتف قط بمقابلة الفقراء، بل كان فى كثير من الأحيان يرسل طعامه الشخصى البسيط لأحد المحتاجين، ولم تكن هناك حواجز بشرية أو حديدية تمنع شعبه من لقاء أبيهم المحبوب والمتواضع... كان زيه بسيطًا جدًا. فى أمراضه لم يغادر أرض مصر إطلاقًا للعلاج بالخارج ولا حتى يغادر القلاية البطريركية للعلاج بمستشفى، بل كان الأطباء يحضرون إليه لعلاجه ومتابعة حالته الصحية. كنا نجد أنفسنا أمام رجل الله بالحقيقة.
يذكر طبيبه الخاص بالإسكندرية د. ميشيل أسعد يونان أنه فى يوم من الأيام أخبره تلميذ البابا: «أنت أول شخص تتوجه الآن لمقابلة البابا، فقدم له العزاء الواجب فى انتقال شقيقته». فعندما تقابل د. ميشيل مع البابا قال له: «البركة فيكم يا قداسة البابا»، فأجابه قائلًا: «على إيه يا حبيب أبوك؟»، فأجابه د. ميشيل: «فى انتقال شقيقتكم»، فقال له: «وهى دى حاجة تزّعل، هى الآن فى السماء». وكانت صلاة التجنيز تتم فى الكنيسة المرقسية بالإسكندرية، بينما البابا كيرلس السادس فى قلايته بالإسكندرية ولم ينزل للصلاة على شقيقته. بينما آخرون تقبلوا التعازى الشخصية.
وأذكر أن الأنبا أثناسيوس مطران بنى سويف «١٩٢٣ – ٢٠٠٠» كان يملك من ملابس الخدمة البيضاء زيًا واحدًا فقط– نعم زيًا واحدًا فقط– وكان قد ورثه من الأنبا أثناسيوس، مطران بنى سويف الذى سبقه «١٨٨٣ – ١٩٦٢». كما أذكر عن الأنبا أثناسيوس مطران بنى سويف أن البابا شنودة الثالث كان قد أوفده للتدريس فى كلية القديس أثناسيوس اللاهوتية بلندن، وكانت له شعبية غامرة بين أقباط لندن لبساطته ومحبته وخدمته الأمينة. وفى أحد الأيام أحضرت له إحدى الأسر القبطية جاكيت من الفرو كثير الثمن، فتقبله منهم فرحًا، وأخذ يلبسه ويريه لهم، وشكرهم على هديتهم، ثم قال لهم: «هيبقى منظرى ردىء جدًا وأنا أرتدى هذا الجاكيت وأسير به بين أولادى الفقراء والمساكين فى بنى سويف»، وقام بخلع الجاكيت وأعاده إليهم.
وماذا فعل بعد ذلك؟ ذهب بنفسه إلى محلات «المعونات من الملابس» المعروفة باسم Charity المنتشرة فى أنحاء إنجلترا، وقام بشراء جاكيت له، طبعًا مُستعمل، بمبلغ ١٠ جنيهات إسترلينى. وكانت سيارته بسيطة جدًا، وفى إحدى المرات استقللت هذه السيارة معه من القاهرة إلى بنى سويف، ولم تكن بها أى كماليات. وهناك فى بنى سويف اصطحبنى معه ومعنا بعض الأصدقاء المصريين كانوا فى زيارة من ألمانيا، وذهبنا لزيارة بعض الأسر البسيطة فى منازلهم وشرب معهم الشاى وتحدث معهم وعن أحوالهم.
كما أذكر أن السيارة التى كان يستقلها البابا كيرلس السادس كانت سيارة بسيطة جدًا وقد آلت إليه من أحد مطارنة صعيد مصر– بعد نياحة هذا المطران– وكنا نفرح عند مشاهدتنا هذه السيارة وهى تجوب شوارع الإسكندرية متوجهًا إلى الكنيسة للصلاة. لم تكن هناك حراسة أو رسميات، بل كان يفتح شباك السيارة ومن خلال النافذة يُخرج يديه لتحية أولاده فى الطريق، سواء مسلمين أو أقباطًا، إذ كان الجميع يدركون أبوته الحقيقية.
وكم عدد المرات التى حضر فيها إلى الإسكندرية باستخدام قطار السكك الحديدية الذى يقف فى محطات المراكز المختلفة، وكان الناس يعلمون بالقطار الذى به البابا كيرلس، فكان يخرج إليهم بابتسامته العذبة ويباركهم، وفى بعض الأحيان يستمع إلى طلباتهم وبأبوة فائقة يلبى لهم طلباتهم، حسب إمكاناته.
الآن، أحد الأساقفة، أخذ يعظ الناس ويوبخهم أن يهتموا بالطعام الباقى وليس بالطعام البائد، ويوبخهم على حرصهم بشدة على الاهتمام بالطعام البائد «الذى هو الطعام الأرضى»، بينما هو فى المقر الخاص به أحضر أمهر الطباخين لإعداد هذا الطعام البائد!! كيف يكون هذا التعليم مجديًا؟ وكيف يصدقه الناس؟.
وكما ورد فى كتاب «فردوس الآباء» أن حدث فى أحد الأيام أن حضر راهب حديث إلى كنيسة منطقة القلالى، وعلى رأسه غطاء منحدر حتى كتفيه، وحين رآه شيخ البرية الأب إسحق تبعه، ثم استوقفه، وقال له: «هنا يقيم الرهبان، ولكنك من أهل العالم، ولذلك لن تستطيع الإقامة هنا، والعيش معنا!». قيل عن القديس الأنبا باخوم إنه ذهب يومًا مع بعض الرهبان الجدد فى شغل، وكانت العادة أن يحمل كل واحد معه مقدارًا من الخبز لمؤونته أيام العمل. فقال له أحد الرهبان المبتدئين فى الرهبنة: «لا تحمل يا أبانا شيئًا، قد حملت كفافى وكفافك»، فأجابه: «هذا لا يكون لأنه قد كُتب عن السيد المسيح أنه ينبغى أن يشبه إخوته فى كل شىء، فكيف أنا الحقير أميز نفسى عن إخوتى حتى لا أحمل حاجتى مثلهم، فمن أراد أن يكون فيكم عظيمًا فليكن لكم خادمًا، ومن أراد أن يكون فيكم أولًا فليكن لكم عبدًا».. إن البابا كيرلس الذى رأيناه كان واضحًا جدًا فى الفقر الاختيارى الذى اختاره لنفسه، لأنه كان راهبًا حقيقيًا.