رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«لعب دور المريض لمقابلته».. قصة لقاء جمع أنيس منصور والدالاي لاما

أنيس منصور
أنيس منصور

"سيدي ومولاي اسمح لعبد ضعيف جدا جاء من مصر (عدد سكانها 30 مليونا) كلهم يحبونك وحزينون على ما أصابك على أيدي أعدائك من الصينيين.. اسمح له بأن يتشرف فيلمس بيده النظيفة طرف ثوبك.. ولقداستك الحق في أن تختار المكان من الثوب الذي يشرفني أن ألمسه.. واسمح لهذا العبد أيضا أن يسألك عن صحتك الغالية بل التي لا تقدر بمال، واسمح له بأن يتشرف بالجلوس على مسافة تسمح له إن شئت أن يلتقط لك صورة ترفع قدره في عين القراء في مصر والعالم العربي، وإذا وافقت يا صاحب القداسة، فهذا ما يتوقعه العبد من مولاه العظيم، وإذا لم تفعل يا صاحب القداسة، فإنه لن يفقد الأمل، ولن يعود إلى القاهرة في الطائرة التي تقطع المسافة في 15 ساعة إذا لما تتوقف، وقد لا يعود إلى القاهرة وإنما سيموت من الحسرة على أنه لم تسعده لقياك، فإذا مات من أجلك فستظل روحه ترفرف حولك، فارحم هذه الروح من الدوخة حولك، واسمح لها بأن تسعد بالقرب من طلعتك البهية، وأدام الله قداستك.. وأطال في عمر ألوهيتك.. المخلص دائما والمسكين إلى أن تأذن له".

هكذا جاء نص الخطاب الذي أرسله الكاتب والأديب الكبير أنيس منصور لرئيس دولة التبت الدالاي لاما أثناء رحلته حول العالم، وجاءت محطته للهند التي زارها من أجله، بعد أن هرب من التبت أمام القوات الصينية.

كانت الصحف تتحدث عن الدالاي لاما حينها، بأنه ذلك المعبود الذي يحكم بلاد التبت روحيا، هذا الشاب الطيب هرب ومعه بعض الرهبان إلى الهند وقطع في هذه الرحلة ألوف الأميال الجرداء، ويقول أنيس منصور في كتابه "حول العالم في 200 يوم": فقد رأيت المناطق الجبلية التي مشى عليها الدالاي لاما بعد ذلك، وأعتقد أنه لا يكفيه مليون مؤمن لكي يركبهم عبر هذه الجبال والوهاد، وفي تلك الليالي الباردة، أي ثلث سكان التبت، خصوصا أن بلاد التبت صحراء باردة جدا، ولذلك يسمونها سقف العالم، حيث توجد أقدم النظم التي عرفتها البشرية.

انتظر أنيس منصور طويلا، وراح يقطع الوقت في شرب الشاي وأكل الأناناس وشرب اللبن والبيض وإغاظة كل جرسونات اللوكاندة، وفي يوم دق جرس التليفون وكان المتحدث أحد موظفي اللوكاندة، وقال لأنيس إن خطابا جاءه من الدالاي لاما، واستقبل أنيس منصور الخبر بشكل مفرح وقال: "وقررت في هذه اللحظة أن أحلق لحيتي، وأن أغرق جسمي في الكولونيا، وأن أتعطر لكي أكون جديرا بهذا الشرف الذي لم يسبقني إليه أحد، وتخيلت العناوين التي ستصدر بها صحف "أخبار اليوم" في القاهرة: أول صحفي يقابل الدالاي لاما.. أول حديث للدالاي لاما مع أخبار اليوم.. الدالاي لاما يوقع بأصابع قدميه على صورته هدية منه لقراء صحف أخبار اليوم.. التوقيع بأصابع القدم تقليعة لنجوم السينما في أمريكا.. أكبر دليل على أن الدالاي لاما أمريكاني"، إلا أن كل ذلك انقلب بمجرد سماعه طرقات على الباب، ومجيء الجرسون بالخطاب، وبسرعة فتح الخطاب وطارت عيناه من أول الصفحة إلى آخرها حتى وجد أن الخطاب رفض، واعتذر الدالاي لاما عن مقابلته لانشغاله، وحينها صمم أنيس منصور على عدم العودة إلى القاهرة دون أن يراه ويتحدث معه، وهذا ما أكده منصور في كتابه قائلا: الموت أهون، واعتزال الصحافة والكتابة والانتحار أهون من هذا كله، إنك "الدالاي لاما" طاقة القدر بالنسبة لي، وأنا الذي سأفتحها بيدي وأطلب من الله ما أريد وسأقفلها بيدي أيضا، وراح يقلب في الأوراق يبحث عن أصل هذا الشاب، وبعد أن أصبح لديه فكرة واضحة عنه، واستطرد: وقع الاختيار على هذا الشاب ليكون إلها بالاختيار، أي إن الناس لم يولدوا ليجدوا أنفسهم مؤمنين به، وإنما انتظروه وتوقعوه وآمنوا به، ثم إنهم يعرفون أمه ويعرفون أباه.

ورغم أن أنيس منصور قابل خطاب الدالاي لاما بشكل غير مهذب وغير رقيق، إلا أنه بدأ يبحث عن طريقة للسفر إلى مدينة ميسوري حيث يرابط الدالاي لاما ورجاله في سفوح الهمالايا في أقصى شمال الهند وعلى مقربة من حدود التبت، وبالفعل وصل بعد رحلة طويلة للسفر استغرقت أكثر 15 ساعة، وبعد أن وصل عرف أن قداسته ينزل في قصر "بيرلا هاوس"، واتصل بالتليفون وذكر اسمه ووظيفته وأكد ما جاء في خطابه، ولكن الذي حدثه صارحه بأنه هو الذي بعث الخطاب، وأن الدالاي لاما مشغولا جدا هذه الأيام، وحاول أنيس ألا ينهي المكالمة عند هذا الحد، وقال له سأنتظر يوما أو اثنين، إلا أن الموظف قال له: أو أسبوعا، ثم أغلق السكة في وجهه، وهو ما زاد من إصرار أنيس منصور على مقابلة الدالاي لاما.

وظل يفكر في خدع حتى يستطيع مقابلة الدالاي لاما، وبالفعل نفذ فكرته بركوب الريكشا" وهي عربة نقل صغيرة، وتمدد عليها ملفوفا بالبطاطين والفوط والبشاكير واندهش الناس وقال لهم بصوت غير واضح أنه مريض وعلاجه الوحيد عند قداسته، وبين طيات ملابسه وضع كاميرا، واقتربت الريكشا من الحديقة التي تحيط بقصر الدالاي لاما، وبعد أن رآه رئيس الوزراء سبقه إلى فوق، حيث يعيش الدالاي لاما، وبعد أن لاحقه، ابتسم له رئيس الوزراء وأشار له لأن ينهض من تحت البطاطين فقد أدرك حيلته، وظل ملفوفا ببعض الأغطية والفوط الملفوفة حول عنقه، ومن ورائه انفتح باب صغير، وعند انفتاحه انحنت الرؤوس التي ظهرت فجأة، وتقدم الدالاي لاما، وبعد أن انكشفت حيلته لدى المترجم الذي سأله هل أنت مريض، ومن بعدها هل انت صحفي، اضطر أنيس منصور أن ينزع الأغطية، وجلس إلى جوار الدالاي لاما، وظهرت صورة تجمعهما في "أخبار اليوم" وهو يضحك، حيث روى أنيس له نكتة.

وطلب منه الدالاي في بداية حديثه أن يبلغ تحياته إلى المؤمنين به، المساكين في شوارع القاهرة والإسكندرية والمنصورة وغيرها من المدن، ثم بدأ أنيس في طرح عدة أسئلة وجميعها جاءت بنفس الرد أنها "سر"، ثم صرح بأنه يعلم أن الذين يتولون حراسته هم الذين ينشرون أخباره في كل مكان، وطلب منه أنيس أن يصور صاحبة القداسة والدته، وبالفعل اتجه أنيس إلى غرفتها وقابلها، وتعرفت عليه ثم سألته عن سبب مجيئه، ثم تركها وانصرف من غرفتها، ونزل السلم بدون ريكشا، ولم يلتفت إلى أحد، ويقول: خرجت والناس المؤمنون والرهبان يتلفتون ناحيتي، وكل عيونهم تحسدني وتقول بكل لهجات أهل التبت.. يا بختك.

وعاد أنيس منصور إلى نيودلهي، بعد أن ودع الشيالين، وفي ركن من السيارة التي كان يركب بها، بدأت يقرص نفسه، ليتأكد إن كان حيا أو ميتا، معبرا عن هذه اللحظة قائلا: لم أصدق نفسي وأنا أقول باللغة العربية "أول صحفي في العالم كله يقابل الدالاي لاما شخصيا، ويأخذ منه الزكام، ومن المؤكد أنني أول صحفي في الكرة الأرضية يصور أم الإله، ولو طلبت مني أن أتزوجها لوعدتها فورا.