رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

8030 يومًا




فى مثل هذه الأيام، منذ 22 عامًا، اختطف نظام الحكم الفاشى التركى، الزعيم الكردستانى فى تركيا «عبدالله أوجلان»، بعد مؤامرة مكتملة الأركان، شاركت فيها أجهزة مُخابرات كبرى، ونُظم، وجهات مُعادية مُتعددة، وألقت به فى جزيرة نائية وسط الماء، جزيرة «أمرالى»، لمدة 8030 يومًا متواصلة، معزولًا عن العالم، ممنوعًا من رؤية أهله أو مواطنيه، محرومًا من نعمة الحرية بكل مضامينها وملامحها.
8030 يومًا، تغيَّر فيها العالم، كان هناك كيان عظيم اسمه الاتحاد السوفيتى، تفكك، وصعدت الصين من عالم المجهول إلى صدارة المشهد، وتغيرت فى تركيا الحكومات والاتجاهات، فحكم عسكريون «كماليون»، وأصحاب توجهات غربية وأمريكية، ومتأسلمون، اختلفوا على الكثير، وتصارعوا على الكثير، لكنهم اتفقوا على أن يظل عدوهم اللدود، «أوجلان»، خلف الأسوار والأستار، مُحاطًا بالكلاب البوليسية، وفوهات الأسلحة الجاهزة للإطلاق، محرومًا من أبسط الحقوق الإنسانية، التى ما فتئ النظام الأردوغانى الفاشى يتشدق بالدفاع عنها!
واليوم تعلو الأصوات فى العالم أجمع، تُدين الطغمة العثمانية الجديدة الحاكمة فى تركيا بتهم عديدة، منها الإبادة العرقية والولوغ فى الدماء، فمثلما فعل أجدادهم مع الأرمن، حينما استباحوا أجسادهم وأرواحهم، وعذبوا وقتلوا وهجّروا مئات الآلاف منهم، يفعل الحكم الأردوغانى مع الكرد فى تركيا وسوريا والعراق، ولا تنقطع هجماته العدوانية التى تستبيح حرمة الأرض العربية هنا وهناك، بدعوى مُلاحقة إرهابيى الشعب الكردى، والسعى لاجتثاث أرومتهم من الأرض التى وُلدوا وعاشوا فوقها منذ آلاف السنين.
وإذا كان الكثيرون من أبناء الوطن العربى، ولهم كل الحق، يتخوفون من مزيد من تفتيت المُفتت، ويتحسبون من تمزيق المُمزق، خاصةً والخطط مُعلنة، والخرائط جاهزة، والوسائل مُتاحة، وهذه المرّة بدعاوى تحقيق الحلم التاريخى فى بناء دولة موحدة للكرد، المنتشرين، بشكل رئيسى فى أربع دول: تركيا وإيران وسوريا والعراق، فإن الحل الذى يقدمه «عبدالله أوجلان»، من خلال نظرياته وأفكاره وكتاباته السياسية المتدفقة، يمكن أن يكون مدخلًا لحل «القضية الكردية»، ويُمكن أن يتضمن المخرج من الأزمة الوجودية الراهنة لشعب كالشعب الكردستانى، الذى تجمعه الجذور العرقية، والأصول التاريخية، والأبعاد الثقافية، لكن توزعه وانتشاره فى أربع دول يعاديان هذا الحلم ويجعلانه صعب المنال وعر التنفيذ.
وهو حل يدعو فيه «أوجلان» إلى تجاوز المعنى الضيق، والشوفينى، للدولة القومية «بمفهومها البرجوازى»، باعتبارها منتج تاريخى ماضوى فى طريقه للأفول، يقتضى تحقيقه تصارع الملل والنحل، والأعراق والأجناس، والقوميات والثقافات، والانتقال إلى بناء «الأمة الديمقراطية»، والتى تذوب فيها الاختلافات والتناقضات بين الجماعات القومية والثقافية والعرقية المُتباينة، ليتحد جميعها فى تكوين أمة كبيرة، ثابتة الجذور، مُتعددة الفروع، وارفة الظلال، يتآلف فيها الجميع للعمل وتحقيق الازدهار، بدلًا من القتال والتنازع، ويُصبح تمايزهم ميزة لا نقيصة، واختلاف أصولهم نعمة لا نقمة، وتباين ثقافاتهم وأعراقهم إضافةً لا خصمًا.
وفى هذا الإطار الجامع، الذى يقترحه القائد الأسير «عبدالله أوجلان» بديلًا عن الشقاق الدامى الذى لا يتوقف، والصراع الكارثى الذى بلا نهاية، بين المُكونات التاريخية فى الشرق الأوسط: العرب والكرد والفرس والترك والأرمن،.. إلخ، تنسد المداخل التى أجادت القوى العالمية والمحلية المُعادية، التسلل منها لبث الفرقة والانقسام، وتتحد الإرادات للتحديث والتقدم، عوضًا عن اجتماعها على الاقتتال والتخلف، وحتى يمكنها مُعالجة الأعباء الثقيلة، الموروثة من عصور العداوة والكراهية.
وقد يرى البعض فى دعوة «الأمة الديمقراطية» الأوجلانية حلمًا من الأحلام الوردية العصيّة على التحقق، حلم؟.. ولم لا؟.. أفلم تكن كل المشروعات الكبرى أحلامًا تبدو بعيدة المنال فى بداياتها؟ أو لم يُعتقل «نيلسون مانديلا، ويمكث فى مسجنه الحصين 27 عامًا متواصلة، لعقابه على حلمه بزوال دولة الفصل العنصرى فى جنوب إفريقيا، وبناء دولة المساواة بين البيض والإفريقيين فى بلدهم؟ فمن الذى انتصر فى النهاية: «الواقعيون» الرافضون للتسليم بقوة الأفكار، بل والأحلام أيضًا.. أم «الرومانسيون» الطيبون، الذين يحلمون للإنسانية بغدٍ أجمل ومستقبل أفضل؟
وبمناسبة مرور 22 عامًا، أو 8030 يومًا على اختطاف «عبدالله أوجلان»، أطلق مثقفون وسياسيون مصريون وعرب من القاهرة مبادرة، نتمنى لها التوفيق، لتحرك عربى عالمى بالإفراج عنه، بعد هذه المدة الطويلة للاعتقال فى معتقلات الحكم التركى الفاشى، والتى لا يناظرها، فى العالم أجمع، إلا حالات الاعتقال الإجرامى التى تمارسها دولة الاحتلال الصهيونى بحق رموز النضال الوطنى الفلسطينى!