رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أول المبارزت الإيرانية الأمريكية في العهد الجديد



مساء الأثنين الماضي؛ وصلت أول حزمة صواريخ إلى كردستان العراق مستهدفة مطارها الدولي في "أربيل" والقاعدة الأمريكية المتاخمة له. أربعة صواريخ أصابت أهداف داخل المطار وفي حرم القاعدة العسكرية لقوات التحالف الدولي ضد "داعش"، وصاروخ واحد انحرف قليلا ليسقط على بعد كيلومترات من حرم المطار، بالقرب من مقر "المجلس الكردي في سوريا" والقنصلية المصرية بأربيل.
في حين تصدت الدفاعات الجوية للقوة الأمريكية بمطار أربيل لعدد آخر من الصواريخ، تمكنت من تدميرها بالجو قبل إصابة أهداف أخرى، الصواريخ التي استهدفت بشكل أساسي القاعدة الأمريكية المتواجدة بمطار أربيل الدولي، تسببت في مقتل مقاول مدني أمريكي وإصابة خمسة مدنيين آخرين منهم جندي أمريكي.
مجموعة تطلق على نفسها مسمى "سرايا أولياء الدم"؛ أعلنت صباح اليوم التالي تبنيها لهذا الهجوم، ووفق بيانها حددت عدد الصواريخ التي جرى اطلاقها بـ"24 صاروخ". وكان اللافت في البيان أيضا؛ أنها تعهدت بمواصلة الثأر من القوات الأمريكية عبر عمليات نوعية أخرى في "كردستان". لفظة "الثأر" تشير بوضوح إلى ارتباط هذه المجموعة بالكيانات المسلحة الموجودة بالعراق والتابعة لإيران، وهذا يعزز ما ذهب إليه المراقبون العراقيين ذوي الصلة بهذا الملف، حين أشاروا تحديدا بارتباط هذه المجموعة بكتائب "حزب الله العراقية". وفيما يخص تحديد "كردستان" كنطاق جغرافي لعملياتهم المستقبلية وفق ما جرى ذكره ببيان المجموعة، له دلالتين الأولى له علاقة بمحاولة المجموعة الجديدة صرف الانتباه، عن الفرضية السابقة التي تربطها مباشرة بحزب الله العراقي الذي تتهمه الولايات المتحدة، بالوقوف عبر عناصره وراء تنفيذ الهجمات التي تستهدف منشآت دبلوماسية وعسكرية أمريكية، بل وذهبت الأخيرة إلى استهداف معسكرات اعداد وتأهيل هذه العناصر بهجمات جوية، دمرت بعض من هذه المعسكرات وأسقطت ضحايا بين صفوف مقاتليه. جرى ذلك في مارس من العام الماضي ردا على استهداف الكتائب لـ"قاعدة التاجي"، قبل أن تغادرها القوات الأمريكية في عملية اعادة الانتشار التي نفذتها وفق رؤية الإدارة الأمريكية السابقة، ولاحقا اضطر "حزب الله العراقي" أن يعلن استجابته لوقف "مشروط" لإطلاق النار، وافتراضا هناك التزام من قبل الكتائب بهذا الايقاف منذ أكتوبر الماضي.
لذلك بدا الأمر على هيئة توزيع أدوار، ما بين المليشيات المعلنة الموالية لإيران وبين هذه الكيانات الجديدة التي خرجت للنور ما بعد مقتل "قاسم سليماني" و"أبومهدي المهندس"، حيث تعهدت تلك المجموعات الوليدة حينذاك باستهداف التواجد الأمريكي الذي تمكن من اقتناص القياديين، في ضربة إجهاض وإذلال متعمد ومعلن ضد التواجد والنفوذ الإيراني بالأراضي العراقية. وفي الوقت الذي بدأت كتائب "حزب الله العراقي" وغيره من فصائل "الحشد الشعبي" الرئيسية، بأخذ زمام مبادرة التصعيد في نطاق العاصمة بغداد ومحافظات الوسط والجنوب بشكل رئيسي، برزت "سرايا أولياء الدم" وقد اختصت بالعمل في نطاق إقليم "كردستان العراق" الشمالي. باعتبار أن الإقليم يمثل نقطة ارتكاز أمريكية هامة لا غنى عنها، ولها هناك تواجد مزدوج تحت مظلة قوة التحالف الدولي ضد داعش وتمثل الولايات المتحدة فيه، الغالبية العددية وكافة أنماط التسليح والعمل الاستخباراتي الذي يغدي هذه القوة. فضلا عن استقرارها في "مطار أربيل الدولي" منذ الغزو الأمريكي في 2003، حيث تمثل كردستان بالنسبة للقوات الأمريكية "الشرفة" الحيوية التي تمكنها من الاستحواذ على إطلالة واسعة، على كافة مناطق التماس ما بين العراق والإقليم وما بين العراق والمكون الكردي السوري، الذي يعد الحليف الهام أيضا في تلك المنطقة العامرة بالمهددات والأحداث.
"أنطوني بلينكين" وزير الخارجية الأمريكية؛ لم يجد سوى الاعراب عن "غضبه" من الهجوم الصاروخي الأخير في كردستان العراق، بحسب وصف تصريحه الرسمي الذي طالب فيه السلطات الأمنية بفتح تحقيق عن الواقعة، متعهدا بـ"حساب المسؤولين" في الاشتباك الأول للإدارة الأمريكية الجديدة مع هذا الملف الشائك. وفي اتصال هاتفي أول أيضا مع "مسرور بارزاني" رئيس وزراء إقليم كردستان العراق؛ تعهد الوزير الأمريكي بتقديم كامل الدعم لحكومة الإقليم في اجراءات التحقيق مع تسخير الدعم الفني الأمريكي، من أجل الوصول لمنفذي الهجوم وتقديمهم للعدالة. بعدها تفرغ الجانب الأمريكي لفك شفرة الرسائل الإيرانية التي حملتها تلك الصواريخ، فبعيدا عن النفي الإيراني لصلتها بهذا الإطلاق والإدانة التي جاءت بتصريح "سعيد خطيب زاده" المتحدث بإسم الخارجية، للـ"المحاولة المشبوهة" لإلصاق هذا الحادث بإيران، تدرك واشنطن كما كثيرين أن طهران تقابل عبر هذا الهجوم الإدارة الجديدة في أيامها الأولى وتستبق الترتيب الأمريكي لهذا الملف ولميراث إدارة دونالد ترامب، التي لا تبدي الأخيرة ارتياحا له في مجمل نتائجه الملتبسة حتى الآن على الأقل.
أولى الرسائل التي أفصحت عنها هذه الحزمة من الصواريخ، أن الجانب الإيراني قادر في أي لحظة على إحراج رئيس الوزراء العراقي أمام الحليف الأمريكي، عبر اشعال الأرض تحت أقدام كل من يناصر مشروع "مصطفى الكاظمي" في حربه ضد السلاح غير الشرعي. وثاني الرسائل أن التفاصيل الدقيقة للمشهد الأمني العراقي تمتلكه إيران وحدها، ولديها فجوات معادلاته على الأرض مما يجعلها جاهزة وقادرة طوال الوقت على تحقيق اختراق فاعل، يخدم مصالحها في كل مرة تحتاج لمثل هذا الأمر. على سبيل المثال فيما يخص العملية الأخيرة التي وقعت بأربيل، تكشف وقائعها أن طهران على دراية كاملة بأن التنسيق الأمني ما بين الأجهزة الأمنية، لكلا من بغداد وأربيل ليست في أفضل أحوالها ويغيب عنها الكثير من آليات العمل المشترك، مما أتاح للمليشيات الموالية لإيران من دفع المتسللين لداخل كردستان العراق ومن ثم تنظيمهم داخل كيانات جديدة مثلما جرى في "سرايا أولياء الدم". هذا نموذج للدراية بالتفاصيل الدقيقة التي تحقق ميزة نوعية للأذرع الإيرانية، تجعلها قادرة على العمل بمرونة غير متوفرة لدى الأطراف الأخرى، وتظل على هذا النسق تعزز من وضع يدها العليا على معادلة الأمن التي تمكنها، من خوض وإجراء الصفقات والتبادلات مع الجميع وهم كثر على الأراضي العراقية وفي تخومها. تظل في النهاية "عملية الاختبار" من دلالات الرسائل على نحو كبير بالنظر إلى توقيت الهجوم، فطهران تبدو في هذه المرحلة وهي متلهفة على اختبار الإدارة الأمريكية الجديدة، دون أن تترك لها الفرصة لالتقاط الأنفاس وترتيب أوراقها، فاختبار ردات فعلها مع أسلحة إيران المشرعة طوال الوقت في الإقليم، قد تكون طهران عبر حزمة صواريخ منفلته لجأت إلى استخدامها كنوع من محفزات الاشعال، التي عادة ما تساعد في كشف الغموض الذي لازال يكتنف، الدخول الأمريكي وحدوده وخطوط سيره الشائكة على أعقد ملفات المنطقة بلا منازع.