رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الهروب من جحيم أردوغان


«استطاع حزب العدالة والتنمية التركى الحاكم، الذى شارك الرئيس رجب طيب أردوغان فى تأسيسه، نشر جذوره فى أنحاء الدولة وعبرها، وفى مفاصل قطاع الأعمال.. وإذا لم تكن داعمًا مطيعًا لحكومة هذا الحزب، لن تكون فرصك فى تركيا كبيرة».. ربما كان هذا هو العنوان الرئيس لإجابة سؤال طرحه أحد الباحثين الأتراك، لمعرفة أسباب مغادرة العديد من الشباب المتعلمين والسياسيين تركيا، خصوصًا أن بعض هؤلاء بدأ الحديث عن مغادرة البلاد، بعد احتجاجات متنزه «جيزى» فى 2013.. ومع محاولة الانقلاب فى 2016، نظروا إلى رد الحكومة القمعية والسلطوية، وتطهير القطاع العام من المعارضين، وقرروا أن الفرص فى بلادهم لم تعد مُهيّأة لأمثالهم، ولا لأولئك الذين لا يوافقون هوى حكومة العدالة والتنمية.. إذ أكد الباحث جون لوبوك أنه من خلال تجربته الشخصية، ومن القصص المتناقلة، يعرف كيف تبدو هجرة الأدمغة، حيث قال إنه يعرف كثيرًا من خريجى أفضل الجامعات فى بلاده، بما فى ذلك جامعة بوغازجى «البوسفور»، التى تتعرض حاليًا لهجوم الحكومة والصحافة اليمينية يوميًا.
طلب «لوبوك» من البعض ملء استبيان دون أن يطلب هوياتهم، حتى يتمكن من فهم أسباب هجرة الأدمغة بشكل أفضل.. وتلقى ردودًا، أوضح أنها تعطى لمحة عن جزء من هذه المجموعة الكبيرة من الأتراك الذين يعيشون فى الخارج، وأبانت نتائج الاستطلاع أن 49.2% ممن شملهم، تراوحت أعمارهم بين 30 و40 عامًا، و67.2% بين 25 و40.. ومن المؤكد أن هذا يُعد سلبيًا على الاقتصاد التركى، فقد دفعت سياسات أردوغان هؤلاء الأشخاص، الذين لا يرون مستقبلهم فى تركيا، إلى حمل مهاراتهم ورءوس أموالهم إلى الخارج.. وقد تعتقد أن هذا النزوح الجماعى للمتعلمين والمنتجين اقتصاديًا سيثير قلق الحكومة التركية، لكنها لم تهتم لذلك، بل زادت الوضع سوءًا بمهاجمتها الطلاب فى جامعة البوسفور المرموقة «.. ولم تقتصر سلبيات الوضع فى تركيا على تجفيف الاستثمار الأجنبى المباشر، بل إن بعض رءوس الأموال التركية غادرت البلاد أيضًا، مما يزيد من تفاقم عجز ميزان المدفوعات، ويقلل من قيمة الليرة التركية.. وأكد «لوبوك» أن الحكومة التركية تواصل استهداف المؤسسات الليبرالية مثل جامعة البوسفور، لتشتيت الانتباه عن الوضع الاقتصادى المزرى.
لم يعد خافيًا على كل ذى عقل أنه وعلى مدار خمسة عشر عامًا، ومنذ تولى أردوغان رئاسة الوزراء فى مارس 2003، نتيجة وصول حزبه، العدالة والتنمية، لسدة الحكم قبل ذلك بستة أشهر، عمل جاهدًا على توطين قواعد نظام صار بموجبه الحاكم المستبد، الذى نراه فى وقتنا الحالى، فكيف حدث هذا الأمر؟
يرجع تاريخ كتابة الدستور التركى الحالى إلى عام 1982، لكن هناك العديد من التعديلات تم إجراؤها عليه منذ ذلك الحين، أبرزها ثلاثة تعديلات، تمت فى ظل تواجد أردوغان فى الصورة، سواء كان رئيسًا للوزراء أو رئيسًا للجمهورية.. فى أكتوبر 2007، تم استفتاء الأتراك على مجموعة من التعديلات الدستورية، فى مقدمتها انتخاب الشعب لرئيس الجمهورية، وإمكان انتخاب نفس الشخص رئيسًا لمرتين، مدتهما عشر سنوات.. خلال فترة إجراء هذا التعديل الدستورى، كان أردوغان يتولى منصب رئاسة الوزراء، وكانت تؤرقه الصلاحيات الممنوحة للجهات القضائية، خصوصًا العسكرية، وبناءً عليه، عرض رئيس الجمهورية وقتئذ عبدالله جول مجموعة من التعديلات الدستورية على مجلس النواب الذى قَبِلها، وتمثلت فى تضييق مهمة القضاء وتركيز الصلاحيات فى يد حزب العدالة والتنمية بشكل أكبر، بالإضافة إلى مجموعة من الإجراءات الهادفة لزيادة نفوذ رجال الأعمال والمستثمرين وأصحاب رءوس الأموال والطبقات الحاكمة، لتكون شريكة لأى حكومة فيما يسمى بحماية الدستور، عبر منح أدوار أكبر لغرف التجارة والصناعة والحرف والنقابات.. وهنا تجدر الإشارة إلى أن كل الاحتجاجات التى قام بها أغلب النقابات مؤخرًا فى عهد أردوغان، تم قمعها بشدة، مما يعنى أن السلطات الممنوحة لها كانت حبرًا على ورق، ومحاولة تجميل صورة تركيز السلطة فى يد نظامه.
وشملت تعديلات الدستور عام 2010 استحداث محكمة لحقوق الإنسان، على أن تكون مرتبطة بالمحكمة الدستورية العليا، وتكون معنية بالنظر فى قضايا حقوق الإنسان، والتظلمات التى يتقدم بها المواطنون، لكن المفارقة أنه رغم إنشاء هذه المحكمة، إلا أن نظام أردوغان قمع بوحشية الحراك الاحتجاجى، الذى خرج ضده فى يونيو 2013، لذا تعايره المعارضة دومًا بأن نظامه «فاسد واستبدادى».
فى 2014، وجد أردوغان نفسه فى مأزق، وأن عليه مغادرة الحكم، لأن نظام حزب العدالة والتنمية لا يجيز له تولى أكثر من ثلاث ولايات، لكنه يريد الاستمرار فى الحكم كرئيس للدولة.. وبالفعل رشحه الحزب لمنصب الرئاسة، وفاز فى الانتخابات بنسبة 53.2% من إجمالى عدد الأصوات.. لكنه وعلى ما يبدو، لم تعجبه الصلاحيات التى يتمتع بها، لذا قام بقمع كل من يعارضه، وحدث العديد من موجات الاحتجاج ضده، فاستغل تحرك الجيش ضد نظامه فى يوليو 2016، ليبدأ حملة اعتقالات وتصفية لكل معارضيه، وانتهز الفرصة لإحداث أكبر تغيير فى الدستور، وتحويله من النظام البرلمانى إلى الرئاسى، ليصبح الحاكم صاحب الصلاحيات الأكبر فى تاريخ تركيا.
وبموجب التعديلات الدستورية الجديدة، فإنه يحق للرئيس التركى أن يبقى فى منصبه حتى عام 2029.. كما يمتلك صلاحيات تعيين كبار مسئولى الدولة مباشرة، بمن فيهم الوزراء، وإلغاء منصب رئيس الوزراء، إضافة إلى التدخل فى القضاء الذى يتهمه بالخضوع لنفوذ رجل الدين فتح الله جولن، كما يحق له تقرير ما إن كان يتوجب فرض حالة الطوارئ أم لا.. وما إن تم انتخاب أردوغان رئيسًا للجمهورية، استغل صلاحياته بالشكل الذى توقعه الكثيرون، وأصدر قرارات بإقالة حوالى ثمانية عشر ألفًا من موظفى الخدمة المدنية، من بينهم تسعة آلاف شرطى وستة آلاف عسكرى، وألف من موظفى وزارة العدل، بحسب تقارير للصحافة التركية.. كما عمد إلى تعزيز سلطاته التنفيذية، بإصدار عدد من القرارات التى تُتيح له التدخل فى عمل البنوك.
لقد باء النظام الرئاسى التركى بالفشل على كل المستويات، لأنه كرس لحكم الفرد الواحد، وألغى إرادة جميع المؤسسات المدنية والعامة، إضافة لفرض الأفكار والأطروحات المتشددة والإخوانية.. ولكن أردوغان يعود من جديد، وبمساندة شريكه فى التحالف الحاكم، دولت بهجلى، رئيس حزب الحركة القومية، ليعلن أن حزبه، العدالة والتنمية، وحلفاءه القوميين قد يبدأون العمل على صياغة دستور جديد بعد أقل من أربع سنوات من تعديل الدستور السابق، لمنحه سلطات كاسحة.. وهكذا تمضى الأمور فى تركيا نحو الهاوية.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.