رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حول الفقر الاختيارى.. لمن يهمهم الأمر «1-2»


عندما يتقدم الشخص للرهبنة وبعد أن يجتاز فترة الاختبار، تُقام عليه صلاة الموتى، أى أنه صار من طغمة من لا يملكون أى شىء فى الحياة. ثم يقف أمام هيكل الرب ويقدم الكثير من التعهدات التى ينبغى أن يلتزم بها طوال حياته الرهبانية- سواء كان راهبًا أو أسقفًا- وحتى يوم انتقاله من هذا العالم. ومن بين هذه التعهدات:
«١» أثبت على الإيمان الأرثوذكسى إلى النفس الأخير، «٢» أسلك حسب قوانين الرهبنه معترفًا بأنها موت عن العالم، «٣» أبعد عن محبة المال، «٤» أتعهد بألا أدخل فى معاملات مادية، «٥» أبتعد عن محبة النصيب الأكبر، «٦» أتعهد بالمواظبة الشخصية على قراءة الكتاب المقدس والتأمل فيه، «٧» أتعهد بقراءة بستان الرهبان وكتب الآباء، «٨» أواظب على التسبحة اليومية، «٩» أرتبط بحياة السكون والتأمل، «١٠» ألا أكون مُحبًا للترف.
يخبرنا كتاب «فردوس الآباء» أو «بستان الرهبان» للأسقف بلاديوس Palladius الذى وضعه عام ٤٢٠م، بأنه يحوى أروع القصص عن الآباء النساك والمتوحدين ورهبان الأديرة الذين عاشوا فى برارى مصر. وفى دراسات تتميز بالتفكير السليم، وتتسم بروح الإنصاف والاتزان، قام بها الباحث الإنجليزى الكبير «بتلر» Butler عام ١٨٩٨م عن هذا الكتاب الثمين، بناءً على تكليف من جامعة «كامبردج» Cambridge الإنجليزية، برز بلاديوس فى صورة مشرقة، تمتزج فيها أمانة النقل بصدق الرواية وروعة التعبير.
ولأهمية الكتاب قام البابا شنودة الثالث «١٩٢٣- ٢٠١٢» بنشر هذا الكتاب الرائع على صفحات «مجلة الكرازة» عندما كانت المجلة تهدف إلى الناحية الروحية والتعاليم النافعة، بعد أن قام الأستاذ رشدى السيسى- سكرتير تحرير المجلة- بترجمة الكتاب إلى العربية. وأعتقد أن النسخة الإنجليزية من الكتاب كانت قد وصلت إلى الأنبا شنودة، وقت أن كان أسقفًا للتعليم «١٩٦٢- ١٩٧١»، عن طريق تلميذه المحبوب د. جورج حبيب بباوى «١٩٣٨- ٢٠٢١» الذى كان يدرس الفلسفة بجامعة كامبردج، وقد أوفد إليها عام ١٩٦٥. وعندما سافرت للدراسة بالخارج فى الفترة «١٩٧٥- ١٩٨١» كنت متابعًا باهتمام صفحة «فردوس الآباء» التى يتم نشرها بمجلة «الكرازة»، فقمت بتجميعها، ثم فى عام ١٩٨١ قامت كنائس مار مرقس بواشنطن وكليفلاند وتروى «ميتشيجن» بالولايات المتحدة الأمريكية بطبع الكتاب الذى جاء فى ٢١٠ صفحات. وبعد عودتى من الخارج عرضت فكرة إعادة طبع الكتاب بمطبعة الأنبا رويس العريقة بالعباسية على البابا شنودة الثالث، وقد سُرّ بالاقتراح لكن العمر لم يمتد به.
فى الفصل الخامس من الكتاب الذى ورد بعنوان «الفقر الاختيارى» نطالع الآتى:
من المعروف عن القديس الأنبا أرسانيوس «أو الأنبا أرسانى بالقبطية، ٣٥٠- ٤٤٥م»، عندما كان لا يزال يعيش فى العالم، أنه كان متأنقًا، لا يرتدى سوى أفخر الثياب وأغلاها. أما عندما قدم إلى الأسقيط وأقام فيه، فكان لباسه مهلهلًا، لا يضاهيه أحد فى رخصه وخشونته، وقد اعتاد عند تردده على الكنيسة، من حين لآخر، أن يجلس خلف عمود كى لا يرى أحد وجهه فيطوبه، إذ كان متألقًا كوجوه الملائكة «لا يزال ذلك العمود موجودًا هنا فى مصر، بدير البرموس»، وكان شعره ناصعًا كالثلج، غزيرًا كشعر يعقوب، وكان جسده نحيلًا من كثرة الأصوام وشدة الجهاد، وطالت لحيته حتى أشرقت على منتصف جسده أو كادت، أما رموش عينيه فقد تساقطت من كثرة البكاء، وكان فارغ العود، وإن كان قد انحنى قليلًا فى شيخوخته، إذ عمّر حتى الخامسة والتسعين من العمر. وعندما كان فى العالم، عاش بالقصر أربعين عامًا، فى عهد «ثيودوسيوس»- الملك العظيم- الذى أصبح والدًا للإمبراطوريين «هونوريوس» و«أركاديوس»، وكان أرسانيوس معلمًا لهما فى الأدب والحكمة، من هنا جاء لقب «مُعلم أولاد الملوك» على القديس الأنبا أرسانيوس الذى عاش فى الأسقيط أربعين عامًا أخرى، أما فى «بابيلون»، المواجهة لمدينة منف، بالقطر المصرى، فقد عاش عشرة أعوام، وفى «كانوبيس» بالإسكندرية «الواقعة غرب الإسكندرية ناحية أبوقير» أقام ثلاثة أعوام، ثم عاد منها إلى «بابيلون» حيث انتقل من هذا العالم، بعد أن كملت أيام حياته فى سلام وفى مخافة الله. ويُذكر عن القديس الأنبا أرسانيوس أنه لزم الفراش بالأسقيط لمرضه، وكان فى حاجة إلى قدح من حساء الخضار أو إلى طبق من العدس، وإذا تعذر عليه أن يحصل على أى منهما بالأسقيط، أخذ بعض فتات خبز الصدقة، وراح يأكله وهو يقول: «أقدم لك الحمد يا سيدى المسيح، فباسمك أستطيع أن أتناول هذا الطعام المبارك». وحدث فى أحد الأيام أن كان الراهب أرسانيوس يعرض أفكاره على راهب بسيط، فتعجب منه أحد الرهبان، وقال له: «يا أبى أرسانى، كيف وأنت المتأدب بالرومية واليونانية تحتاج إلى أن تسأل هذا المصرى الأمى عن أفكارك؟»، فأجاب الراهب أرسانى بتواضح حقيقى: «أما الأدب الرومى واليونانى فإنى عارف به جيدًا أما (ألفا) و(بيتا) التى أحسنها هذا المصرى فإنى إلى الآن لم أتعلمها!» (وكان يقصد طريق الفضيلة).
يُذكر عن قديس يدعى «بلاجريوس» Philagrius عاش فى أورشليم، كان يشتغل بيديه، ويكد للحصول على ما يسد به رمقه. وفى يوم ما، عثر على كيس كبير يحوى ألف قطعة نقود ذهبية، كان قد سقط من صاحبه فى الطريق، فالتقطه ولم يبرح المكان الذى عثر فيه عليه، لتوقعه أن يعود صاحبه للبحث عنه، وفعلًا عاد الرجل وهو يبكى وينتحب، فانحنى به القديس جانبًا، وسلمه الكيس فى الخفاء، ورفض ما عرضه عليه من عطاء، على سبيل المكافأة. فراح صاحب الكيس، فى موجة من عرفان الجميل، يصيح قائلًا: «هلموا لتروا ما أسداه إلىّ رجل الله الصالح من جميل!»، ولكن الشيخ الوقور تسلل من المدينة متخفيًا، خشية أن يشتهر بهذا الصنيع، ويصبح موضعًا لتكريم الناس.
يروى عن أحد الرهبان أنه كان معتادًا أن يأخذ كفايته مما يصله من طعام، فإذا ما حل به ضيف، قدم إليه طعامه كاملًا دون أن يمسه، وهو يقول: «إنى أحس شبعًا وريًا، فالرب قد أطعمنى».
اعتاد الراهب أن يعيش فى حفاوة بالبرية، فوصلته رسالة من أهله، جاء فيها: «والدك مريض جدًا، وقد أشرف على حافة الموت، فاحضر لترث ممتلكاته»، فأرسل إليهم رده قائلًا: «لقد مُت عن العالم، قبل أن يأتى الوقت الذى سيموت فيه أبى بزمن طويل، ومن غير المستطاع أن يصبح الميت وريثًا لمن لا يزال على قيد الحياة».
وفى هذا الصدد أتذكر الواقعة الآتية: حدث أنه فى ديسمبر ١٩٧٥ كان قد حضر إلينا بمدينة تورنتو الراهب متياس السريانى «فيما بعد الأنبا رويس» للمساعدة فى الخدمة بالكنيسة، وأقام منفردًا بحجرة بالمدينة الجامعية بجامعة تورنتو. حدث فى يوم من الأيام أن جاءت مكالمة تليفونية لكاهن الكنيسة الأب مرقس إلياس تفيد بأن والدة الراهب متياس السريانى قد تنيحت ورجاءً إخطاره بالأمر وتعزيته. اجتمع الأب الكاهن بأعضاء مجلس الكنيسة، وتشاوروا فى الأمر، وفكروا فى الوسيلة التى يبلغون بها الأب الراهب بالأمر. فتوجهوا جميعهم إلى مكان إقامة الأب الراهب بالمدينة الجامعية، وجلسوا معه، لكنهم كانوا مضطربين فى الكلام فنظر إليهم الأب الراهب، وبكل هدوء قال لهم: «أنتم عاوزين تقولوا إن والدتى توفيت! ما المحزن فى ذلك؟ إن كنت أنا أصلًا قد مُت من قبلها عندما صلوا علىّ فى الدير يوم رهبنتى صلاة الموتى». فتملك الجميع دهشة وأدركوا أنهم بالحقيقة أمام راهب حقيقى يدرك عظمة وسر قوة الحياة الرهبانية التى يسلك بها بالحق، وأنه تلميذ حقيقى لكتاب «بستان الرهبان».
ونستكمل بقية الحديث فى المقال القادم.