رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رحلة التكفير الإخوانية بين سيد قطب وتلميذه شكرى مصطفى


فى سجون عبدالناصر كان هناك شاب صغير أبيض الوجه أسود الشعر له نظرة عميقة متفرسة، ووجه غاضب جاد، هذا الشاب هو شكرى مصطفى الذى سيصبح ذات يوم علمًا من أعلام التكفير والعنف والإرهاب فى القرن العشرين، كان هذا الشاب الصغير قد سيق به إلى السجن فى قضية تنظيم سيد قطب عام ١٩٦٥، إذ كان من المحبين له والمتلقين منه.
دخل هذا الشاب إلى جماعة الإخوان وهو فى بلده أسيوط، فقد كان دائم التردد على إحدى المكتبات العامة، وأثناء تردده عليها ليقرأ الكتب التى تشبع نهمه تعرف على أمين المكتبة ويدعى محمد منيب، وتصادف أن كان محمد منيب هذا من شباب الإخوان فأخذ يدعوه برفق إلى فكر جماعة الإخوان إلى أن أفلح فى تجنيده وإدخاله التنظيم الذى كان قد تعرض لضربات أمنية من النظام الناصرى، كانت حياة هذا الشاب الوافد حديثًا على الإخوان شديدة القسوة عانى فيها من شظف العيش وقسوة الوالد الذى كان قد طلق زوجته- أم الشاب- فعاش شكرى فى كنف زوجة الأب ولم يلق إلا كل إهمال وتوبيخ وضرب وركل إن صدرت منه هفوة، فهرب هذا الشاب من ضيق الحياة وعنتها مع والده فى أسيوط، وجاء إلى القاهرة كاسف البال مهدود الوجدان، يحمل «بقجة» ملابسه وبعض كراسات دوَّن فيها أفكاره وأشعاره، وكان من التصاريف أن كانت الفترة التى جاء فيها للقاهرة هى تلك الفترة التى أعقبت الإفراج عن سيد قطب من سجنه قبل منتصف الستينيات.
وفى شقة صغيرة بمنطقة زراعية فى عزبة النخل استقر المقام بـصاحبنا شكرى مصطفى، وكان قد تعرف على الشيخ الأزهرى على إسماعيل، شقيق الشيخ عبدالفتاح إسماعيل «وقد أُعدم هذا الأخير مع سيد قطب». كان صاحبنا شكرى يجلس مع الشيخ على إسماعيل ليفهم منه كتاب «معالم فى الطريق» لسيد قطب الذى كان وقتها كراسة لم تتح لها الظروف لرؤية المطبعة ومن ثم الخروج منها، ومن كراسة «معالم فى الطريق» التى استمدها قطب من كتابات أبوالأعلى المودودى فهم شكرى مصطفى المعصية فهمًا قطبيًا متعسفًا، واعتبر أن كل المجتمعات كافرة لأنها تعصى الله ولأنها لا تطبق شرع الله، دون أن يكون لديه مفهوم لشرع الله.
وأخذ شكرى مصطفى يتجرع أفكار الحاكمية الضالة، التى تأثر فيها أيما تأثر بأستاذه سيد قطب، وفى هذا الجو نشأت صلة طيبة بين شكرى والحاجة زينب الغزالى التى كانت تلقب بـ«سفيرة سيد قطب»، وحين تم كشف تنظيم قطب سنة ١٩٦٥ الذى كان يستهدف اغتيال جمال عبدالناصر باعتباره رأس الجاهلية فى القرن العشرين، وفقًا لفقه سيد قطب، بدأت عمليات القبض على أفراد التنظيم، فكان أن فرّ هذا الشاب هاربًا، حيث اختبأ فى ضاحية من ضواحى القاهرة عند بعض معارفه من الإخوان المسلمين، وظل مختبئًا عند رفاقه من الإخوان حتى إذا ضُيق عليه الخناق استقر به المقام فى مسجد منعزل، حيث حلق لحيته وقص شعره وأقام فى المسجد كمقيم للشعائر ومؤذن للصلاة، إلا أن أحدهم شك فيه فأبلغ عنه فتم القبض عليه وأودع فى السجن الحربى مع المجموعة التى تم القبض عليها، ثم انتقل بعد ذلك إلى عدة سجون منها أبوزعبل وطرة.
وداخل عنابر سجن طرة عام ١٩٦٦ جلس صاحبنا شكرى مصطفى يستمع إلى الشيخ الأزهرى على إسماعيل، وتلقى منه كل أفكاره التكفيرية، وكان اعتقاده جازمًا بأنه لا يوجد مسلم على وجه الأرض، حتى أنه قام بعد ذلك بتكفير شيخه على إسماعيل، ولم يبق معه فى فكرته إلا نفر قليل كانوا هم أتباعه، ومن التصاريف أن محمود عزت ومحمد بديع كانا من تلاميذه المقربين آنذاك.
لم يُلق شكرى مصطفى بالًا لكل كتب التفاسير التى تفرق بين المعصية الكفرية والمعصية التى يقع فيها الكل، معصية المسلم العادى الذى يقترف الكبائر والصغائر ثم يتقرب إلى الله بالعبادات والطاعات. كل الكتب تفرق بين الكافر والمسلم ولكن شكرى مصطفى تأثر بأستاذه سيد قطب ووضع الجميع فى جراب واحد، ولا شك أن نفسيته الغاضبة الناقمة على مجتمعه هى التى قادته للتأثر بقطب الذى كان بدوره ساخطًا غاضبًا على مجتمعه يبحث لنفسه عن ريادة وقيادة، ولكن ليس كل ما يتمناه شكرى يدركه.
يعود صاحبنا لكراسته فوجد أستاذه وشيخه سيد قطب يقول: «إن هذا المجتمع الجاهلى الذى نعيش فيه ليس هو المجتمع المسلم»، تتكرر الكلمات فى ذهن صاحبنا.. ليس هو المجتمع المسلم.. ليس هو المجتمع المسلم، يعود للقراءة من كراسة سيد قطب: «إن المسلمين الآن لا يجاهدون، ذلك أن المسلمين اليوم لا يوجدون، إن قضية وجود الإسلام ووجود المسلمين هى التى تحتاج اليوم إلى علاج»، يصرخ ضميره: نعم المسلمون الآن لا يجاهدون، لا لأنهم نكصوا على أعقابهم، ولكن لأنه لا يوجد مسلمون من الأصل، انتهى عصر المسلمين منذ آماد بعيدة، وها هو الأستاذ سيد قطب يقول لنا: «إن قضية وجود الإسلام هى التى تحتاج إلى علاج»، عنده حق، هل الإسلام موجود!! إذا كان هناك إسلام فأين هو؟ أين الحكم بما أنزل الله؟ بل أين المسلمون؟ كل الذين يعيشون على البسيطة الآن، ويقولون إنهم مسلمون، إنما يتحاكمون إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به، لم يستطع عقل شكرى مصطفى وقتها أن يستوعب أن هذه الآيات كانت لها خصوصية وأنها كانت فى حق اليهود الذين جاءوا للرسول يتحاكمون إليه فى قضية زنا، أرادوا من الرسول أن يحكم لهم ليهربوا من حكم التوراة بالرجم، فكان أنه لم يفهم هو وأستاذه قطب أن الحكم هنا هو العدل، أى من لم يحكم بالعدل ابتغاء الحياة الدنيا وكفرًا وإعناتًا فإنه حكم على نفسه بالظلم والفسوق والكفر، فالله يقول فى كتابه الكريم «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ»، أى أن مقاصد الكتب السماوية هى أن يقوم الناس بالقسط أى أن يتحاكموا فيما بينهم بالعدل.
يعود صاحبنا شكرى إلى كراسته فيقرأ فيها عبارة اعتبَرَها جامعة مانعة يقول قطب فيها: «لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية بـ(لا إله إلا الله)، فقد ارتدّت البشرية إلى عبادة العباد وإلى جور الأديان، ونكصت عن (لا إله إلا الله)، وإن ظل فريق منه يردد على المآذن (لا إله إلا الله)، ونحن ندعو إلى استئناف حياة إسلامية فى مجتمع إسلامى تحكمه العقيدة الإسلامية والتصور الإسلامى، كما تحكمه الشريعة الإسلامية والنظام الإسلامى، ونحن نعلم أن الحياة الإسلامية- على هذا النحو- قد توقفت منذ فترة طويلة فى جميع أنحاء الأرض، وأن وجود الإسلام ذاته من ثم قد توقف كذلك».
طوى صاحبنا الكراسة وقد بلغ تأثره بكلمات سيد قطب مبلغًا كبيرًا، الإسلام توقف، لا يوجد إسلام، يجب أن نعيد الإسلام إلى الوجود مرة أخرى، وكأن صاحبنا شكرى قال وقتها «وجدتها.. وجدتها»، وأظنه قفز فرحًا من مكانه، وبعد أن حفظ ما قاله سيد قطب عن ظهر قلب أغمض عينيه فى هدوء، فقد أخذ الكرى يداعب أجفانه ولم تقو الفرحة على مقاومة النوم، فنام، ولكن مصر فى يوم ما لن تعرف للنوم طريقًا، فقد بدأ صاحبنا الشاب الغامض فى طريق كانت بدايته سيد قطب إلا أن هذا الطريق لن يكون له منتهى، وإلى الآن نحن نجتر العنف والإرهاب، ونعيش مع أنصار بيت المقدس وحسم وسواعد مصر، والكماليين، وفريق محمد عبدالرحمن المرسى، ومحمود عزت، وجمال حشمت، ومذابح يرتكبونها فى العريش وفى غير العريش، ومحاولات لا تنتهى للإيقاع بين المسلمين والأقباط، وكلهم أبناء الإخوان، وقادته، وتلاميذ سيد قطب، ومن ثَمّ التكفيرى القح شكرى مصطفى.