رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد حافظ رجب: سر تركي للقاهرة لن يعرفه أحد.. ولهذا السبب رفعت رقبة زجاجة على يحيى الطاهر عبدالله

محمد حافظ رجب
محمد حافظ رجب

في عام 2000 أي منذ 21 عامًا، أجرى "علي عوض الله كرار"، حوارًا صحفيًا، مع القاص الكبير محمد حافظ رجب تناول فيه الصيحة الشهيرة التي أطلقها الأخير "نحن جيل بلا أساتذة"، وتفاصيل لقاؤه بإبراهيم أصلان، وكيف رفع رقبة زجاجة على رقبة يحيي الطاهر عبدالله، وكيف التقى محمود أمين العالم، وغيرهم.

ولم ينشر هذا الحوار في أي مكان، بل سلمه "كرار" للكاتب عبدالله هاشم، والذي رحل منذ شهر مضى، ليلحق به الأديب الكبير محمد حافظ رجب أمس، والحوار ينشر للمرة الأولى في جريدة "الدستور"، وفيه يكشف رجب تفاصيل توابع صيحته "نحن جيل بلا أساتذة"، وعبد الناصر وانضمامه للتنظيم الماركسي لمدة أسبوع، والعديد من الحكايات.

- تعمدت إغفال اسم يحيى الطاهر في مقولة يحيى حقي.. وقال لي "أنا بتعالج نفسيا" وضربني مع قريب له
قال محمد حافظ رجب: "كان الصحفي والصديق أحمد صالح رئيس تحرير "أخبار النجوم" والموظف بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب –مقر جريدة القاهرة الآن- يتابع نشاطي بعمل ريبورتاجات لي، وطلب مني ذات مرة عمل ريبورتاج عن صيحة "جيل بلا أساتذة"، لينشر في مجلة "آخر ساعة"، فدرت حولي أبحث عن أحد الذين كانوا معي في تلك الصيحة فلم أجد، وكان وقتها يحيي الطاهر عبدالله أحد الوافدين الجدد للقاهرة، وكان قد ذكره يحيى حقي معي بقوله "هناك من يكتب القصة الحديثة بجدارة مثل محمد حافظ رجب، ويحيي الطاهر عبدالله"، وبصراحة أغفلت ورود اسم يحيي الطاهر عبدالله على لسان يحيى حقي، ولما عرف يحيى هذا الأمر غضب مني وظل يحمله لي في قلبه.

يواصل: "وحين طلب مني أحمد صالح البحث عن أحد ينطبق عليه عنوان "جيل بلا أساتذة"، ذهبت ليحيي الطاهر عبدالله وطلبت منه الحضور لعمل ريبورتاج له، وحضر يحيى بالفعل ومعه ابن عم له، وخلال التصوير في شوارع الجيزة كان يحيى الطاهر يرقص "ويتحنجل" كعادته، ويتعاجب بنفسه أمام الكاميرا الفوتوغرافية، فجئت إلى جواره وقلت له هامسا، "اثبت وخليك معقول، لا تتراقص بهذا الشكل أمام الكاميرا"، لم يستجب الطاهر وقال لي "أنا بتعالج علاج نفسي"، فرددت عليه "لا تقل هذا الكلام أحمد صالح الآن، هذا يظهر الجيل أنه جيل مريض"، لكن يحيي الطاهر استمر على ما هو عليه، وعند مقهى بالجيزة، فوجئت بقريبه يحتضنني، ويحيى يضربني، فأسرعت إلى زجاجة "كوكاكولا" فكسرتها ودخلت بها عليهما، مما دفع رواد المقهى للقيام والثورة على ما يحدث، ولم يتم أحمد صالح عمل الريبورتاج، وأخذني والمصور في سيارة معه وابتعدنا، وفي المجلة جلست مع صالح نكتب الريبورتاج دون ذكر يحيى الطاهر عبدالله، فقط الدسوقي فهمي ومحمود بقشيش، وكانا طالبين في كلية الفنون الجميلة، ويكتبان القصة، وكان معهم إبراهيم أصلان.

- فؤاد دوارة هو السبب في صيحة نحن جيل بلا أساتذة.. وأول من اعترف بنا كان يحيى حقي
يعترف محمد حافظ رجب فيقول: "نحن لم نطلق صراحة شعار "نحن جيل بلا أساتذة"، كان ما زال مطمورا تحت جلودنا، لكن الناقد فؤاد دوارة انتشله وجعله عنوانا لمقالة "هل هم جيل بلا أساتذة حقا"، وأذكر أن رشدي صالح حضر ليناقش إحدى قصصي "الجنية" من مجموعة "عيش وملح"، جلسنا قبل التصوير في ردهة من ردهات التلفزيون، وكان رشدي صالح وديعا، وكان المخرج هو حسين كمال صاحب فيلم "المستحيل"، و"شئ من الخوف"، فيما بعد، وفجأة انقلب رشدي صالح إلى وحش، وبلسان مالح ملوحة بحر الإسكندرية، فأطحت حنجرتي في وجهه ووجه الكاميرا، وقلت "نحن جيل بلا أساتذة"، أخرجها "فؤاد دوارة" من تحت جلودنا وأطلقتها أنا في وجه التعالي علينا.

يواصل: "أما يحيى حقي فقد كتب مقدمة لمجموعة "عيش وملح"، وفي هذا نوع من أنواع الاعتراف بنا، وجاء رشدي صالح ليذكرنا بهذا وكأنه يقول لنا أنها منة علينا أن نمتن للكبار من أجلها، ونسبح بأفضالهم، قال لنا رشدي صالح إن يحيي حقي قدمكم وهو أستاذ، فأنتم لا بد أن تعترفوا بالفضل له، فقلت له "الفضل متبادل، نحن متساوون معه في العطاء، نحن نكتب وأنتم تقرؤوننا، وبالتالي تستفيدون منا، ونحن أيضا نقرأ لكم ومن ثم نستفيد منكم، هذا يعني أن العطاء متبادل.

- ممدوح سالم حقق معي.. وضابط آخر قال لي: "مصر لازم تفخر بيك"
يقول حافظ رجب: "أذكر أنه قبل الثورة كانت هناك مجلة تصدر بعنوان "أمريكا"، باللغة العربية، وكانت هناك أحداث المغرب الواقعة وقتها تحت نفوذ الاحتلال الفرنسي، فكتبت خطابا لرئيس تحرير المجلة قلت له فيه: "هذا الاستعمار الفرنسي مؤيد منكم"، وكان عمري وقتها 14 عاما، وكان ذلك عام 1949، وأكملت: "أنتم الحلفاء الطبيعيون له، تؤيدونه فيما يفعل، وفي آخر الخطاب كتبت:، وداعا يا أمريكا، يا أيتها الحمقاء المطاعة"، بعدها بأيام وجدت أمامي شلة عساكر وواحد منهم يأمرني بحمل "البنيكة" التي أعمل عليها وطلبوا مني الذهاب معهم إلى نقطة شريف، أدخلوني على ضابط فقال لي "يبني مينفعش تقف في المكان اللي انت فيه ده وانت معاك حاجات سياسية"، فقلت له "طب أقف فين"، وراح يعدد لي الأماكن التي يمكن أن أقف بها، وفي نهاية المقابلة قال لي: "مصر لازم تفخر بأنك بياع وتعرف تكتب الكلام ده".

يواصل رجب: "أما عن علاقتي بوزارة الداخلية ففي عام 1956 كونت رابطة في مقهى اسمه "فناجيلي"، وانضم لها عدد كبير من الماركسيين، وفي مرة جاءني صبي المقهى وقال لي "إيه الحكاية.. المقهى مرشوشة مخبرين"، بعدها تم استدعائي للمحافظة "مديرية الأمن الآن"، واستقبلني ممدوح سالم الذي أصبح في عهد السادات وزيرا للداخلية، فقال لي: "من تحب من الكتاب؟"، فقلت له "مكسيم جوركي"، فقال لي "ليه؟"، فقلت له "لأنه يكتب عن الفقراء"، فقال لي "ومن تحب من المصريين؟"، فقلت له يوسف إدريس"، فسألني "ليه" فقلت له لأنه يكتب عن الفقراء أيضا"، فقال لي "من هم هؤلاء المشتركون معك في الرابطة؟"، فقلت له "محمد خاطر السيد، وأحمد حسين عطالله شاعر من المعهد الديني"، وفتح علية سجائره وأخرج سيجارة منحني إياها قائلا: "بتشرب سجاير؟"، فقلت: "نعم.. ولكن ليس من هذا النوع"، فأخذت السيجارة وأشعلتها وأكمل "الشيويعيون يحومون من حولك..أليس كذلك؟"، فقلت له "لا يستطيع أحد أن يلفني"، فقال لي "طيب لو قرب أي حد منهم منك تعال فورا وبلغني"، فقلت "إن شاء الله"، وخرجت من عنده، وكانت نهاية العلاقة بيني وبين القلم السياسي في الإسكندرية.

يكمل حافظ رجب عن قصة انضمامه للتنظيم الماركسي فيقول: "أما عن انضمامي للتنظيم الماركسي فكان لمدة أسبوع واحد، كان هناك منظمة لا أتذكر اسمها، وكان يمسكها الدكتور يدعى حسونة ومعه ابنه يدعى عادل، وكانا يترددان على المقهى، وكنت جالسًا أنا والقاص والأديب محمد عباس، فقلت للدكتور حسونة نريد الانضمام للحزب، واجتمعنا مع رجل قصير كان موظفًا في المحافظة، ـنا وهو عباس في "حدائق النزهة"، بمنطقة الحضرة القبلية، أنا قلت إن أرض الحديقة رحبة، ولا أحد في مقدوره أن يكتشفنا، وبعد بضعة أيام وكعادتي وانا في طريقي للمقهى التقيت علي شلش الناقد الادبي الشهير، وكان يقول للموجودين "حافظ رجب انضم لتنظيم مارسكي"، فانزعجت جدا، وقلت في نفسي "تنظيم ماركسي علني بالشكل ده"، وانسحبت.

- محمود أمين العالم قال لي: هقابلك بكرة في المقهى.. وقلت إبراهيم أصلان لا أحد منكم يقف بجواري
يحكي حافظ رجب عن علاقته بأمين العالم فيقول: "أما عن علاقتي بمحمود العالم فعام 1956 بدأ اسمي في اللمعان ككاتب للقصة القصيرة، وكنت أنشر في باب الطبقة العاملة بجريدة المساء، وكان لطفي الخولي الكاتب السياسي المعروف هو المشرف على هذا الباب، وفي هذه الفترة زار محمود العالم الإسكندرية ليلقي محاضرة في كلية الطب، وحضرها عدد كبير من الماركسيين، والذين أخذوني معهم وعرفوني بمحمود العالم، وقالوا له "حافظ رجب أهه"، فمد يده فمددت يدي وتخيلته لينين مصر محرر الطبقة العاملة، فشددت نفسي ونفخت صدري فقال لي "غدا في المقهى سأجئ وأقعد معك"، وحضر فعلا في اليوم التالي، وكان في انتظاره الشاعر محسن الخياط، وأحمد بكار، وكانا منضمين لتنظيم يساري متطرف، ومسئول عنه شخص يدعى فوزي جرجس، وعمل الخياط وبكار مناظرة مع محمود العالم، ناقشوا فيها أدق أسرار الحركة الشيوعية، وأنا معهم أمسك دماغي التي كادت تنفجر، كيف يناقشوا كل ما هو خاص وسري في مقهى عام.

أما إبراهيم أصلان فكان صديقي الذي يعمل الآن في جريدة "الحياة"، وأنا أعمل للحياة الأخرى، القاهرة بالنسبة لي لا تذكر إلا بإبراهيم أصلان، أفقت على وجوده، وكانت الآفاق مفتوحة كلها لي وله ولأمثالنا، وفي النهاية استمر أصلان وتربع على "آفاق الكتابة" الإبداعية، ونسيني أنا رفيق دربه ولم يتذكرني في "آفاق الكتابة" التي تصدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة.

يكمل: "أما عن معرفتي به فكانت أثناء معمعة احتدمت في مجلة الثقافة الجديدة، والتي تولى رئاسة تحريرها محمد فريد أبو حديد، كل أسبوع تنزل أكثر من مقالة ضدي، وأنا وحدي، وكان القاص ضياء الشرقاوي صديقي فقال لي: أنا أعرف ناس يقرؤون كثيرا، ولكن ليس لهم علاقة بما يدور خارج نطاق قراءاتهم"، وفي مرة كنت ماشيا في الشارع فالتقيت ضياء ومعه رجل آخر، فأشار إليه وقال لي "هذا هو إبراهيم أصلان الذي حدثتك عنه"، وانا وكما لو أنني كنت أعرفه من مدة طويلة، قلت له: "شوف ماذا يفعلون بي في مجلة الثقافة الجديدة ولا أحد منكم يقف بجواري"، ومن بعدها أصبحت صداقتنا وطيدة، وكنت امر عليه في امبابة في بيت أهله.

- اشتريت وردا لأنثره على عبد الناصر.. وقابلته على سلم سينما ستراند
وعن لقاؤه بعبد الناصر يقول حافظ رجب: "أما عن لقائي بعد الناصر فكنت في مرة في المواكب الأولى في الإسكندرية للترحيب بجمال وأعضاء مجلس الثورة، وكان معي ورد اشتريته لأنثره عليهم، أثناء مرورهم بجواري، وفي عام 1954 قبل أزمة مارس جاء عبد الناصر وكان وزيرا للداخلية إلى كلية الآداب بجامعة الإسكندرية وألقى خطبة فيما كان الشيوعيون بقيادة طالب الحقوق متولي السلماوي والدكتور الآن بكلية آداب جامعة اسكندرية يهتفون "تسقط النقطة الرابعة.. النقطة الرابعة استعمار أمريكي.. نريد الحريات السياسية، وانا اتنقل بين التجمعين وأقول لهم قفوا بجوارهم إنهم رجال الثورة الحقيقية، وكان صوتي ضائعا بين هدير الأصوات المعادية لثورة 1952، وأنهى عبد الناصر خطبته وتوجه إلى سيارته فتقدمت إليه وسط الزحام من المؤيدين له، ودفعت ذراعي نحوه بحماس، فغذا بي ألكزه في كتفه ولساني يلهج "هات إيدك"، وتصافحنا فيما عشرات الأيدي تفعل مثلما أفعل.

يكمل: "وفي اليوم التالي خرجت مجلة آخر ساعة وفيها صورة كبيرة لنا وتحتها عبارة "الشباب يعاهد الثورة، وفي مرة كنت أقف بجوار سينما ستراند أتحدث مع بائع الجرائد ففوجئت بجمال عبد الناصر يدخل السينما وكان معه شقيقه الليثي وصلاح سالم وشقيقه جمال، فقلت لبائع الجرائد ده جمال عبد الناصر وسأكتب له حالا عن حملات رجال البوليس ضد البائعين في محطة الرمل وشوارعها، كنت أعتبر أن هؤلاء البائعين من أبناء الطبقة العاملة، وأنا كنت أسهر عادة للساعة العاشرة مساءً، ولكن في هذه الليلة انتظرت حتى الثانية عشرة مساءً، وحين رأيته دخلت عليه وأوقفته وسط النازلين، وقلت له "مساء الخير يا سيد جمال"، أنا بائع، والبائعون يحدث معهم كذا وكذا، فقال لي "طيب أنت الذي كتبت هذه الشكوى"، فقلت له نعم.. الشكوى فيها كل شئ، فقال لي تمام، فقلت له أمشي معك وسأشرح لك، فقال لي لا لا تتتعب نفسك، سأقرأها، ومضى.

- مغادرتي للقاهرة بسبب سر لن يعرفه أحد.. وكنت مصدوما من القاهرة
وعن انقطاعه عن الكتابة يقول حافظ رجب: "انقطعت عن الكتابة لمدة 17 عاما بعد رجوعي من القاهرة للإسكندرية، ولكن أسباب رجوعي لا يعرفها أحد ولن أفصح بها أبدا، إنه سر الأسرار وأقسمت أنه بيني وبين الله سبحانه وتعالى، فلا يمكنني النطق به أبدا، ولكن في الأخير هي مأساة إنسان سقط سقطة لا يغفرها إلا الله.

يواصل: "أبدا لم أكن فتوة، لكنني كنت مصدوما من القاهرة، إن ذنبي كله أنني كنت سكندريا، والقاهرة لم تقدم العطف اللازم لي والإنساني الذي يمكنني من المواصلة، وأول ما لاحت لي بشائر العودة عدت، وقتها انقسمت على نفسي وأصبحت حطام إنسان.

وفي الأخير قال: "أما مشاكلي في القاهرة فلم تكن خناقات بالمعنى المعروف، كانت استثارة من الذين كان يجب عليهم تقديم واجب العزاء علي، فـنا كنت رجلا فقيرًا، لكني لم أقدم الانحناءة لأحد، الانحناءة في القاهرة تمزيق للنفس أأباه تماما، ومع ذلك تمزقت نفسي فعلا، يبدو أن رأسي انحنت أكثر مما يجب إلى فوق، فبدت تفاحة آدم من رقبتي تغري نصال السكاكين المتربصة.