رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشيخ نصرالدين طوبار.. العازف على أوتار القلوب «1-3»


الشيخ نصرالدين طوبار «٧ يونيو ١٩٢٠- ١٦ نوفمبر ١٩٨٦»، قارئ قرآن ومُنشد دينى مصرى، حفظ القرآن الكريم وذاع صيته فى مدن وقرى محافظة الدقهلية، ونصحه أصدقاؤه بأن يتقدم لاختبارت الإذاعة، وبالفعل تقدم إلى اختبارات الإذاعة لكنه رسب خمس مرات متتاليات، حتى ضجر، إلا أن إصرار مَن حوله، لاقتناعهم بصوته، دفعه إلى دخول اختبارات أصوات قراءة القرآن والإنشاد الدينى للمرة السادسة، وكان أن نجح فى السابعة.
قدم الشيخ طوبار ما يقرُب من مائتى ابتهال، منها: يا مالك المُلك، مجيب السائلين، جل المنادى، يا من ملكت قلوبنا، يا بارى الكون، سبحانك يا غافر الذنوب، إليك خشوعى، يحق طاعتك، عدتُ إلى رحابك، يا من يرانى فى عُلاه ولا أراه، يا ذا الجلال والإكرام، يا نصير المظلومين، بالإضافة إلى ابتهالات أخرى.
اختير مشرفًا وقائدًا لفرقة الإنشاد الدينى التابعة لأكاديمية الفنون بمصر فى عام ١٩٨٠، شارك فى احتفالية مصر بعيد الفن والثقافة، كما أنشد فى قاعة «ألبرت هول» Albert Hall بلندن، وذلك فى حفل المؤتمر الإسلامى العالمى، سافر إلى العديد من الدول العربية والأجنبية، وكتبت عنه الصحافة الألمانية: «صوت الشيخ نصر الدين طوبار يضرب على أوتار القلوب»، تم تعيينه قارئًا للقرآن الكريم ومنشدًا للتواشيح بمسجد «الخازندارة» بشبرا.
على مدار عقود، ظلَّ الشيخ «نصرالدين طوبار» يمثل حالةً فريدةً فى عالم الإنشاد الدينى بأسلوبه الخاص، وأدائه الضارع، فلا أحد يُنكر أنَّ الشيخ «طوبار» كان من أكثر المنشدين تأثيرًا فى الجماهير، وأنّه حظى بشعبية لم يحظَ بها منشد غيره، وتلك حالة تحتاج إلى وقفة لفهم أسبابها، لا سيما مع الإقرار بأنَّ الرجل لم يكن صاحب إمكانيات صوتية غير اعتيادية؛ لكنه- رغم ذلك- استطاع أن يُصبح أحد أهم رموز فن الإنشاد الدينى فى مصر والعالم الإسلامى كله.
فى ٧ من يونيو عام ١٩٢٠، وُلِد الشيخ «نصرالدين شلبى طوبار»، بحى الحمزاوى فى مدينة المنزلة بمحافظة «الدقهلية».
فى مدينة المنزلة، نشأ الفتى «نصرالدين» والده قارئ، وجَدُّه قارئ كبير، يُدعى إلى القدس وإسطنبول، حفظ الفتى القرآن فى كُتّاب الشيخ «محمد أبوسلطان»، وهو رجل صالح، وَهَبَ حياته كلها لتحفيظ القرآن الكريم، وعُمرّ طويلًا، فقد توفى عام ١٩٩٠، أى بعد رحيل تلميذه الأشهر «نصرالدين طوبار» بـ٤ سنوات.. بعد حفظ القرآن، تعلم الطفل «نصرالدين» أحكام التجويد على يد الشيخ «محمد مسعد صقر»، وهو من علماء القراءة فى المنزلة.
والمنزلة مدينة عريقة، يعمل معظم أهلها بالتجارة، واعتادت العائلات الكبيرة فيها على إحياء ليالى شهر رمضان والمناسبات الدينية بتلاوة القرآن، وإنشاد القصائد والتواشيح، وفى هذه الأجواء تَفَتح وعى «طوبار»، لا سيما بعد أن رأى بعينه حفاوة الجماهير بكبار المشايخ ومشاهير المنشدين الذين كانوا يدعون لإحياء الليالى، أو مآتم العائلات الغنيّة فى المنزلة، رأى بعينه التجاوب الجماهيرى مع الشيخ «مصطفى الجمل»، الذى كان يُدعى لإحياء بعض الليالى، وفى ليلة المولد النبوى، حضر إلى المنزلة الشيخ «إبراهيم الفران»، مصطحبًا فرقته، واستمع «طوبار» إلى الأداء الفذ للمنشد المشتهر، وكان من نتيجة ذلك أن قرر الفتى «نصرالدين» تكوين مجموعة من أصدقائه المشايخ، ومارس مبكرًا عملية التلحين للقصائد والموشحات، التى دَوَّنَ كلماتها فى كراس، بعد أن أخذها مباشرةً من كبار الشيوخ الذين أحيوا الليالى فى المنزلة.
بدأ «طوبار» خطواته الأولى فى عالم التلاوة والإنشاد، واشتهر فى المدينة والقرى المجاورة لها، لكن طموحه كان كبيرًا، وفى محاولاته لإثبات وجوده، ونيل الشهرة التى يرى أنّه يستحقها، تعرض «طوبار» لمرات متوالية من الإحباط، بما يكفى لتحطيم أى أمل، ونسيان كل تفكير فى الصعود إلى مرتبة الكبار.
شهرة «طوبار» فى منطقة المنزلة، واستحسان الجماهير لتلاوته، شجعه على قرار صعب، هو الانتقال للإقامة فى القاهرة، ومحاولة طرق باب الإذاعة، والتقدم لاختبار القراء، وهى محاولة لم تلقَ نجاحًا، وخلال ٦ سنوات، أقام فيها الرجل بحى السيدة زينب لم يشعر به أحد، فدبَّ الإحباط إلى قلبه، فحمل أمتعته واصطحب أسرته عائدًا إلى بلدته؛ ليمكث عامين كاملين، قبل أن يشتعل بداخله بركان الطموح، الذى خمد بصفة مؤقتة؛ ليحزم أمتعته مجددًا قاصدًا القاهرة مرة أخرى، وليتقدم مرة أخرى إلى الإذاعة.
عرف الشيخ طريق النجاح، يوم أن عرف إمكانياته الصوتية، وما يمكن أن يرضى به الجماهير، فتوقف عن محاولات الالتحاق بالإذاعة قارئًا للقرآن الكريم، بعد أن حدَّث نفسه بأن الساحة تمتلئ بأعلام يصعب معهم ظهور نجم جديد، فالجيل كله جيل عمالقة، ولن يجد الشيخ موطئ قدم فى ظلِّ كبارٍ من أمثال «مصطفى إسماعيل»، و«عبدالفتاح الشعشاعى»، و«أبوالعينين شعيشع»؛ لذا قرر «طوبار» أن يطرح نفسه على المستمعين منشدًا يحاول تقديم لون جديد.
وبالفعل وعام ١٩٥٦، قُبل الشيخ طوبار منشدًا للتواشيح والابتهالات فى الإذاعة المصرية، التى كانت تعيش فى هذه الفترة عهدًا صارمًا لا يعرف مجاملةً ولا محاباةً، ولا يقبل بأنصاف المواهب، فقد كان على رأس لجان الاستماع فى هذه الحقبة الموسيقار «محمد حسن الشجاعى»، ومعه مدير عام البرامج الدينية الشاعر الكبير «محمود حسن إسماعيل»، كان «الشجاعى» مسئولًا عن كل ما يخص الأداء الصوتى والموسيقى من مطربين، وعازفين، وقراء، ومنشدين، كان مؤتمنًا على ذوق المصريين، الذين كانوا يعتبرون الإذاعة ولجانها عنوانًا للجودة ودقة الاختيار، كان اسمه كافيًّا لبث الرعب فى قلب كل من تُسوّل له نفسه أن يتصدر دون أن يكون أهلًا للتصدر، وقد روى الشيخ «طوبار» نفسه فى حديث إذاعى أنَّ «الشجاعى» لم يكن يكتفى بالتشدد فى اختبارات القبول فقط، بل كان متشددًا فيما بعد النجاح والقبول، إلى حد أنه إذا ضبط قارئًا غير مهندم المظهر حذفه من البرنامج، ولم يسمح بمرور صوته عبر الأثير، فالقارئ الإذاعى فى نظر «الشجاعى» يجب أن يكون عنوانًا للانضباط فى الأداء، والمظهر، والسلوك، ولا ريب أنَّ التوقيت والظروف والقواعد والمعايير، التى اعتمد الشيخ «طوبار» على أساسها، تُمثل جانبًا مهمًا لفهم موقع الرجل ومكانته فى صَرح الإنشاد الدينى المصرى.
نستكمل فى الحلقة القادمة..