رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قائد يسبق بفكره واقع عصره




كلما مر يوم، وتوالت الأحداث من حولى، ورأيت كيف يفكر العالم فى المستقبل، ازددت إيمانًا بأنى تحت سماء بلد عريق، وفى ظل زعيم يعرف، قبل الخطو، موضع قدمه.. وآمنت بأن بلادى فى عهده بخير، وإلى الخير دائمًا.. عندما شرعت مصر فى شق قناة السويس الجديدة، هاج المتنطعون وماجوا، مشككين فى جدوى ما اتخذته القيادة السياسية من قرار، يكلف مصر- ظاهريًا- مليارات الجنيهات.. ونفس الشىء حدث، عندما أعلنت مصر عن إنشاء شبكة القطار الكهربائى السريع، الذى يربط البلاد، شرقها بغربها، وشمالها وجنوبها، ويمتد حتى بعض دول الجوار.. لكن ما لم يدركه هؤلاء، أن الدنيا تهدر من حولنا، بما قد يهدد اقتصادنا، ويقلل من دخلنا القومى، إن لم نفعل ذلك.. حتى جاءت الأيام، لتكشف عن أن الرئيس عبدالفتاح السيسى كان يرى ما لم يره هؤلاء وغيرهم.. وأن فكره سبق الواقع بخطوات، فجاءت مصر مستعدة لما تم الإعلان عنه من أقطار شقيقة، وأخرى مكايدة.. كيف؟
حسب ما أوردته مجلة Foreign Policy الأمريكية، فإن دولة الإمارات العربية المتحدة وقعت اتفاقًا مع إسرائيل، ضمن الاتفاقية الشاملة للسلام بين الدولتين، المسماة «إبراهام»، لنقل كميات من النفط من موانئ الإمارات إلى ميناء إيلات على البحر الأحمر، ومنه إلى ميناء عسقلان على البحر الأبيض المتوسط.. بل إن الطبيعى أن تضخ السعودية، هى الأخرى، بعضًا من إنتاجها البترولى عبر هذا الخط الذى سيمر فى أراضيها، وربما شجع هذا الخط بعضًا من الدول الخليجية الأخرى على استخدامه.
ظاهر الأمر.. أن السعى الإسرائيلى للحصول على تصدير حصة من بترول الإمارات إلى دول أوروبا عبر موانيها، هدفه الكسب المالى من رسوم عبور النفط من خلال هذا الأنبوب، وهو أقل تكلفة من النقل عبر الناقلات، مرورًا بقناة السويس، بل وأسرع فى الوصول إلى محطته النهائية.. لكن الهدف الرئيسى هو إيقاف تهريب النفط الإيرانى، عبر هذا الخط، الذى تقوم به إسرائيل، بمقابل، كسرًا للعقوبات الأمريكية على طهران، التى تعلم واشنطن بما يجرى، ولكنها تغض الطرف على ما يفعله حلفاؤها فى تل أبيب، ما دام يحقق لهم المكاسب!.. فهل فى ذلك إضرار بمصر؟
لا تتعجلوا الإجابة، وتعالوا نعود إلى البدايات.. فقصة إنشاء هذا الخط تعود إلى عام ١٩٥٦، عندما وقع العدوان الثلاثى على مصر، وأغلق الزعيم الراحل جمال عبدالناصر قناة السويس.. وقتها، واجهت إسرائيل انتقادًا حادًا من الدول الأوروبية، التى توقف ضخ النفط إليها عبر قناة السويس، بسبب مشاركتها فى تحالف العدوان على مصر.. ولما كان شاه إيران يرغب فى استمرار تصدير بترول بلاده إلى أوروبا، فقد وقع عقدًا مع أصدقائه فى إسرائيل عام ١٩٦٠، على إنشاء أنبوب من ميناء إيلات إلى ميناء أشكلون على البحر المتوسط، ثم يُنقل النفط الإيرانى عبر ناقلات إلى دول أوروبا.. وعندما قامت الثورة فى إيران، وتولى الخمينى ونظام الملالى الحكم، وأصبح العداء مع إسرائيل ظاهريًا، جاء مستثمر أمريكى، وعقد اتفاقًا مع الحكومة الإيرانية- التى تود تدمير إسرائيل!- لنقل بترولهم إلى دول أوروبا، عبر الأنبوب الإسرائيلى.. ومن يومها، تولت إسرائيل مهمة توصيل بترول إيران إلى أوروبا، كما أكده أيضًا، محرر World Oil، صراحة.
معنى هذا أن خط الأنبوب موجود بالفعل، ونقل بترول إيران من خلاله تحتفظ به إسرائيل سرًا، لا يعلمه إلا بعض الإعلام الأمريكى.. وبمجرد توقيع اتفاقية «إبراهام»، بما فيها من إنشاء خط نقل البترول الإماراتى، حتى شجعت الولايات المتحدة مده إلى موانئ الإمارات، لأنه سيمثل ضربة موجعة للاقتصاد الإيرانى، بوقف تهريب نفطها إلى أوروبا، وهو عين ما تسعى دول الخليج إليه، باعتبار إيران عدوًا يتربص دائمًا بدول الخليج المجاورة له، ويهدد أمنها القومى، ولذلك، فقد رصدت حكومة واشنطن ثلاثة مليارات دولار، حتى يكتمل بناء الخط بين دبى وأشكلون الإسرائيلى، لأنها تعلم أن اليهود لا يدفعون مليمًا.
هنا لا بد من التأكيد على أن التنسيق الخليجى قائم مع مصر، وأنها تتفهم أسباب ودواعى إنشاء هذا الخط، باعتبارنا جميعًا فى مركب واحد، فى مواجهة تهديدات إيران للمنطقة.. ولعلنا نذكر الزيارة الخاطفة التى قام بها الشيخ محمد بن زايد، فى أعقاب توقع اتفاقية «إبراهام»، إلى مصر، والحفاوة التى قوبل بها، والتى تؤكد أن القاهرة على علم تام بكل التفاصيل، وأنه لا أحد فى الخليج يتصرف بمفرده، فيما قد يمثل ضررًا لبلادنا.. لكن الأمر- حتى الآن- مرهون بتوجهات الرئيس الأمريكى جو بايدن من دول الخليج، وقراره بتعليق صفقة طائرات الـF ٣٥ للإمارات، التى جاءت ضمن بنود اتفاق السلام مع إسرائيل.. فإذا تعنت بايدن ذهبت الاتفاقية أدراج الرياح، وتوقف معها خط إسرائيل.
وهنا يثور سؤال: ما هو حجم الضرر المتوقع على مصر من جراء تصدير النفط الخليجى عبر الخط الجديد؟
بداية لا بد أن نؤكد أن الإنتاج الخليجى من النفط ضخم، بحيث لا يكفيه مثل هذا الخط، التى تقول إسرائيل إنه ينقل فقط ستمائة ألف برميل، فى حين أن ما يمر من بترول فى ناقلات، عبر قناة السويس، يتجاوز الـ٢.٥ مليون برميل، هذا إلى جانب خط «سوميد»، التى تمتلك مصر فيه حصة تقدر بـ٥٠٪، بينما تشترك معها الإمارات والسعودية والكويت بـ١٥٪ لكل منها، بينما تستحوذ قطر على الـ٥٪ الباقية.. ومن غير المنطقى أن تضر هذه البلاد بمصالحها ومصالح مصر من أجل عيون إسرائيل.. فهذا الخط «سوميد» ينقل جانبًا من بترول الخليج بشكل سريع إلى أوروبا عبر أنبوبين مزدوجين ينتهيان فى سيدى كرير على البحر المتوسط ومنه إلى دول أوروبا.
نعود إلى ما بدأنا به.. وهو أن لدينا قيادة سياسية واعية تقرأ المستقبل، وتعد له عدته بمشروعات قد يراها البعض إهدارًا للمال، ولكنها فى الحقيقة استباق للغير وحفاظ على مكتسبات الوطن، بقطع الطريق على من يفكر فى أن ينال جزءًا من استحواذنا على التجارة فى المنطقة.. لقد كشفت الصحف ووسائل الإعلام الإسرائيلية عن أن تل أبيب بدأت فعليًا فى تنفيذ خطتها لربط مدينة إيلات بالبحر الأبيض المتوسط عبر خط سكك حديدية قد ينافس قناة السويس، وهو مشروع تفكر فيه تل أبيب منذ عشرين عامًا.. ولذا جاء مشروعنا القومى الجديد، القطار الكهربائى السريع، بطول ١٧٠٠ كيلو متر، ليربط أنحاء الجمهورية ببعضها، ومناطق الإنتاج بموانئ التصدير.. واحدة من الخطوات المصرية للحفاظ على مكتسباتنا من التجارة.. جنبًا إلى جنب مع تطوير الأرصفة البحرية التى تخدم تصدير النفط، عبر خط «سوميد»، وإنشاء أرصفة جديدة.
بقى أن نقول إن إخواننا فى الخليج حريصون على مصالحنا، ولن يفعلوا ما قد يضرنا.. فمصر لهم هى الدرع والسند وعمق الخليج الاستراتيجى.. لكن حصار إيران هدف استراتيجى مهم.. وخط نقل البترول بين الإمارات وإسرائيل واحدة من أدوات هذا الحصار.. ودائمًا المفاضلة موجودة بين أهداف كبيرة وأهداف أكبر وأشمل.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.