رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الصعود الخاطف والانحدار السريع «4»



«لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»، مَن فاطمة؟ مَن محمد؟ ولماذا يقطع يدها؟ وكل الأشياء الموجودة فى الخلاء ملك لله، لا يحق لأحد أن يتهمنا بالسرقة، السارق من يسرق من هو أفقر منه، من يسرق ما لا يحتاج إليه.
يجذبنى صوت الرجل الصادح فى المكبرات، فأخرج من الخيمة، قدماى الحافيتان ووجهى المُترب وشعرى المنكوش، أرى الصفوف المرصوصة رجالًا ونساءً وأطفالًا، صبيانًا وبنات فى ملابس نظيفة ووجوه فرحة، اليوم العيد.. لا أظن هذه الوجوه تسعى للسرقة أو الخطف، فلماذا يتحدث عن أشياء لا تهمهم.. تلسعنى برودة التراب الندى، يتكلم الرجل كثيرًا، لكن عباراته تلتصق فى أذنى، تشعرنى بحزن وتعيد لى مطاردات واتهامات معلقة فوق رءوسنا، تردد أبى على المركز، سجنه أحيانًا، الصيحات التى قد تتردد فجأة عند اقترابنا من مدخل بلدة أو مرورنا بشوارع قرية، يا غجر، يا نور.. من محمد؟ ومن فاطمة؟
أقترب من أرض الذرة، آخذ كوزًا، أقطع الثانى لشحاتة، أعود للخيمة، ما زال أبى متكومًا فى ركن الخيمة وزوجة أبى متمددة وسط إخوتى.
أخرج من العتمة وأشعل النيران فى «الراكية»، أشوى كوز الذرة، بالأمس لم أتعش، أعطيت فطيرتى لشحاتة، هل استيقظ الآن، لا يهتم كثيرًا بتعلم التدريب مع القرود، يضربه زوج خالتى كثيرًا، يجلس خلف الخيمة يبكى، أطبطب عليه يُبعد يدى، سأكون موسيقى فنان مش قرداتى، يخرج عود البوص يكمل تسويته.. أجلس فى صمت بعيدة لكنه فى مرمى بصرى، لماذا لم يستيقظ حتى الآن؟ لا أعرف مَن منا مسئولٌ عن الآخر، يصهل الحصان «سكر»، أعود ثانية لأرض الذرة أقطف من أوراق الذرة، أشد الورقات، خشونتها تجرحنى، لكن من أجل «سكر» كل شىء يهون، يقول أبى إنه سندنا وبدونه نكون مكسحين، فيهتم بإطعامه و«تحميمه» أكثر مما يهتم بأولاده أو زوجته، عليها اللعنة لا تكف عن أذيتى وتنغيص عيشتى والإيقاع بينى وبين أبى، أدعو عليها كلما أصبحت وكلما أمسيت.
هى زوجته الأولى، أنجب منها ثلاثة صبيان وبنت، وتزوج عليها أمى، تجمع بينهما قرابة، ابنة خالته، لكن الزواج من أبى جعل بينهما كراهية وعداوة وصلت لانتهاك حرمة الموت.
يحكى أبى: تركتها نائمة، تركتها حية، نفسها دافئ على وجهى، خرج لقضاء حوائجه عند الظهيرة، أحكمت إغلاق باب الخيمة منعتنى من الدخول، أمك نايمة وعايزة تستريح، تأخر أبى فى العودة من البندر، حتى أتى بعد الغروب واكتشف أنها ميتة منذ الصباح، تركتها وحدها، عيناها مفتوحتان، ظلت عيناها مفتوحتين، غاب نورهما، أصبحتا غائمتين رماديتين، لكنهما تخفيان جفاء وهجرانًا.. لم نستطع إسبالهما وبدت رائحة خفيفة لا يقدر لسانى على أن يصفها، تمسك بالقماش، نستقر على الفراش، أرادت أن يكره أبى أمى، أن تكون رائحة الموت آخر ما يشمه منها، وهى التى كانت نظافتها وجمالها مضرب المثل ومحل الغيرة، صرخ أبى: لن أسامحك أبدًا، وأنا لن أسامحها أبدًا.. فتحت سحارة أمى أخرجت زجاجة عطرها سكبتها عليها، لكن رائحة الموت أقوى، الجو حار، خانق، ظلت الرائحة تنتشر، وأنا أدعو الله ألا يشمها أحد سواى، الليل طويل، وأبى يتنقل من بيت العمدة لبيت «شيخ الغفر»، من بيت كبير لكبير، يجمع ثمن الكفن الذى لم يكن جاهزًا، اشترى القماش من البندر، ووافق خياط على أن يترك ما فى يده كى يفصله.
كان الليل طويلًا، وأنا وأمى فى الغرفة.. منحتنى فى ساعات الصمت كل حكاياتها، خبراتها، حكت لى الكثير، لن أترك لها شيئًا لتستمتع به من أمى، جمعت ملابسها، صررتها فى صرة طويلة.
لن أسامحها أبدًا.. يوم كامل ونهار قبل أن تدفن أمى، ليست لنا مقابر، ومن يموت منا يدفن فى المقبرة التى يوافق أهل البلدة على فتحها، يوم كامل ونهار وروح أمى معلقة عارية لا تعرف لها مستقرًا.. عمر كامل والسوائل التى لوثت كفن أمى ما زالت رائحتها تملأ أنفى.
لن أسامحها أبدًا، وسأحتفظ بكفنى جاهزًا، لن أسمح للموت بأن يباغتنى فى نهار قيظ حارق.. سأموت فى الشتاء، حيث يكون الجو ممطرًا والنداوة تملأ الهواء، وقتها يصير القبر للجسد ونسًا ودفئًا.