رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عبدالرحمن بدوى




إنه جيلٌ تربى على عشق الحضارة الغربية، لكن الحضارة الغربية بالنسبة له تعنى أوروبا، ‏حتى عندما أصبحت أوروبا هى القارة العجوز، وغدت أمريكا هى فردوس الأحلام، لم يتخلّ هذا ‏الجيل عن قناعاته، رأينا ذلك مع «جلال أمين» أستاذ الاقتصاد، وكذلك مع «عبدالوهاب المسيرى» ‏أستاذ الأدب الإنجليزى، ولا يختلف الأمر كثيرًا مع أستاذ الفلسفة الشهير «عبدالرحمن بدوى».‏

يُعد «بدوى» واحدًا من أهم أساتذة الفلسفة، ليس فى مصر فقط، بل فى العالم العربى؛ ‏حيث لعب أدوارًا مهمة فى هذا الشأن فى العديد من الجامعات العربية، كما يُعد «بدوى» أحد أنبغ ‏تلامذة «طه حسين»، وتتفق أو تختلف مع «بدوى»- خاصةً مع شخصيته الحادة ومزاجه المتقلب- ‏لكن لا يمكنك إلا القبول بدوره ومكانته فى تطور الفكر العربى المعاصر.‏

وعندما أصدر «بدوى» مذكراته، كان رجع صداها مثيرًا، واستمرت عواصف هذه المذكرات ‏لفترةٍ طويلة، لكن ما يهمنا هنا فى هذه المذكرات هو رؤيته لأمريكا، هذه الرؤية التى نجدها فى ‏الفصل المعنون بـ«رحلة إلى الولايات المتحدة الأمريكية»، ومن العنوان يتضح التعامل الجاف ‏والرسمى لبدوى معها، إذ لم يختر الاسم المحبب والعلم «أمريكا» الذى يستدعى الحلم الأمريكى ‏ببريقه، بل استخدم «الولايات المتحدة الأمريكية» وكأنه يحدثنا عن كيان سياسى متنافر ومختلف ‏تكون من اتحاد كيانات سياسية وثقافية متباينة، وأطلق عليه «الولايات المتحدة الأمريكية».‏

كانت زيارة «بدوى» لأمريكا فى عام ١٩٧١، فى ظل حالة العداء القومى العربى لأمريكا ‏بعد حرب ٦٧، ومن البداية يشير «بدوى» إلى تأثير الدين على مجمل الحياة فى أمريكا، وآثار ‏ذلك فى الجامعات، فى لفتة مهمة ومقارنة مع معشوقته فرنسا العلمانية، حيث الجامعات دينها ‏العلم.‏

ويشير «بدوى» إلى تأثير اللوبى الصهيونى فى أمريكا، حيث رأى مظاهرة ضخمة فى ‏شوارع نيويورك احتفالًا بذكرى تأسيس دولة إسرائيل، ويرصد لنا «بدوى» انطباعاته عن ذلك، قائلًا:‏

‏ «لم يعد عندى شك بعد أن شاهدت ما شاهدت فى أن اليهود يسيطرون على نيويورك ‏سيطرة كاسحة تامة، ومن وراء نيويورك يسيطرون على الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية فى ‏الولايات المتحدة بأسرها».‏

ويصف «بدوى» نيويورك أثناء إقامته فيها بأنها: «مدينة المتناقضات الصارخة، الثراء ‏الفاحش والفقر المدقع»، وفى نهاية الرحلة يصل «بدوى» إلى قناعة فكرية، هى فى الحقيقة خير ‏تعبير عن قناعات جيله تجاه أمريكا: «وقد رددت فى نفسى هذا القسم نفسه وأنا فى نيويورك، وهو ‏ألا أعود إليها ولا إلى أى مدينة أخرى فى الولايات المتحدة الأمريكية إلا إذا اضطرتنى إلى ذلك ‏عوامل قاهرة».‏

ويحِن «بدوى» إلى قارته العجوز، ومعشوقته فرنسا حتى وهو فى أمريكا، إذ يحن إلى ‏المقاهى الأوروبية: «زاد نفورى من نيويورك عدم وجود المقاهى على النحو المعروف فى فرنسا ‏وألمانيا وإيطاليا وغيرها... كل ما هو موجود فى نيويورك كافتيريات لتناول وجبات خفيفة أو ‏بعض المشروبات، وعليك أن تغادر المكان فور انتهائك من الطعام».‏

إنه جيل لم ينبهر بأمريكا، ولا بالحلم الأمريكى.‏