رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

القوة.. ونخبتها «1»


هذا الكتاب هو أحد كتب الساعة، التى يتوجَّب على كل مثقف ورجل فكر، أو سياسى مهتم بالشأن العام، أو أكاديمى يبحث فى شئون العالم ومتغيراته، أو حتى مواطن «عادى» معنىٌ بشئونه الخاصة، وبالكيفية التى يُدبر بها أمور حياته المباشرة، جميعًا أن يقرأوه، وأن يسعوا إلى تفهم محتوياته وسع طاقتهم، لسبب بسيط وواضح، أن القضية التى يطرحها الكاتب، والموضوعات الذى يناقشها الكتاب، وإن كان ظاهرها يتناول قضايا تبدو بعيدة عن واقعنا الحياتى الملموس، ويفرض أوضاعًا قد لا يُدرك المواطن «العادى» أو «رجل الشارع» مصدرها أو أهميتها، لكنه، هو، فى نهاية المطاف، من يتحمل نتائجها، ويرى آثارها، رؤية واضحة، مُنعكسة على حياته ومصيره، وتفرض إرادتها فرضًا على يومه وغده!
الكتاب عنوانه: «نُخبة القوة فى القرن الحادى والعشرين»، للباحث المتميز، الدكتور «محمد عبدالمنعم شلبى»، وهو كتاب متوسط الحجم، «١٦٠ صفحة من القطع الكبير»، لكنه عظيم القيمة، صيغت الأفكار المطروحة فيه بإحكام ووضوح، دون زيادة أو إفراط، ويحتاج إلى تركيز فكر وإمعان نظر لاستخلاص نتائجه المُهمة، والتعرف على مفاتيح رؤاه.
فالقضية التى يطرحها الكتاب تُناقش طبيعة «القوى المتنفذة على المستوى الكوكبى، أو العالمى، أو الكونى»، والتى نستشعر جميعًا بتأثيرها على مصائرنا، وسيطرتها على شئون أوطاننا وحياتنا، حتى دون أن نراها رؤى العين، أو نشهد الخيوط الخفية التى تُحرك شئوننا من خلالها، كعرائس «الماريونيت» التى نشاهدها على المسرح تتحرك وتتكلم، دون أن نشهد مَن يقف خلف الستار، يتحكم فى كل خطواتها وتعبيراتها!
يُشير المؤلف إلى أن تعبير «نخبة القوة»، «The Power Elite»، ليس بالتعبير الجديد، فقد صكّه عالم الاجتماع الأمريكى «رايت ميلز» فى خمسينيات القرن الماضى، لكى يرصد ويُحلل القوى الحاكمة والمتنفذة فى المجتمع الأمريكى بعد الحرب العالمية الثانية، خاصةً بعد أن تمددت هذه النخبة وتجسدت هيمنتها، ليس داخل أمريكا فحسب، إنما من خلال تبلورها على نطاق كوكبى، متعدى الجنسية، وحضورها البارز فى «العواصم الرأسمالية الكلاسيكية»: واشنطن، لندن، برلين، باريس، جنيف، روما، طوكيو، ولتضم لاحقًا عواصم أخرى مثل سول، وبكين، وموسكو.
لقد وافقت الظروف هذه النخبة، فشهدت «نقلة نوعية» فى نهايات ثمانينيات وأوائل تسعينيات القرن العشرين، بسقوط التجربة السوفيتية وبزوغ عملية «العولمة» الرأسمالية مُتعدية الجنسية، ومع تبلور ملامح الثورة العلمية والتكنولوجية التى يشهدها العالم فى عقوده الأخيرة، لم تعد هذه «النخبة» مقصورة على نخبة رجال الأعمال وحسب، وإنما ضمت إلى جانبها، كما يوضح الكتاب، نخبة السلطة السياسية والعسكرية، «فضلًا عن مُكون آخر بالغ الخطورة والأهمية، يتمثل فى نخبة المعرفة بكل فروعها، وخاصة الاستراتيجية والمُستقبلية»!
وما يمس بلادنا، وبلاد العالم ثالثية الشبيهة، فى هذه القضية المُتشابكة، أن هذه الرأسمالية الكوكبية، الشرهة للتوسع والسيطرة، والنهب والاستغلال، فى سياق سعيها للهيمنة على نطاق الكوكب كله، لم تعد تقنع بما حققته داخل نطاقها الجغرافى، أو حيزها السياسى ومداها الاقتصادى، ولا بما راكمته، وتراكمه حتى الآن، من تقدم وازدهار عن طريق الاستعمار والنهب المُنظم لثروات الشعوب، وإنما مدت أياديها إلى بلاد عالمنا التابع، لتجرى فيها ما يتفق ومصالح هذه الرأسمالية الكوكبية من تغيرات، تُبدل فيما يُوصفه الكاتب بـ«طبقات ما قبل العولمة»، كالفلاحين، والحرفيين، التى «تتجه إلى الاختفاء، لتُستبدل بجماعات طبقية، مُهيمنة وخاضعة جديدة، مُرتبطة بالاقتصاد الكوكبى».
وفى هذا السياق، تنحدر أوضاع الطبقات الوسطى الأقدم، وتتفسخ شرائح مهنية أخرى عديدة، و«تتم عملية بلترة أى التحويل إلى طبقات كادحة لا تملك سوى قوة عملها- بروليتاريا»، للفلاحين والحرفيين»، ما يؤدى إلى «ظهور طبقات عاملة حضارية وريفية جديدة، ترتبط بعمليات الإنتاج مُتعدى الجنسية، حيث تُصبح الطبقة العاملة- وفقًا لذلك- مُتسمة بالميوعة، واللارسميّة، إضافة إلى ظهور كتل ممتدة من المُهمشين»!
إنها عملية أشبه ما تكون بالعمليات الجراحية الحديثة، التى يتم خلالها تغيير المُكون الجينى للنبات أو الكائن الحى، لتغيير صفاته المتوارثة، والمُتراكمة على مدى الأحقاب والقرون، واستبدالها بأخرى مطلوبة، تُحقق صفات أخرى تخدم مصالح المتحكمين فى مصائر البشر!
والضحيّة هنا، هى تلك الدول والجماعات البشرية الأضعف والأكثر هشاشة، فى عالمنا، والأشد جهلًا وتخلفًا، التى ستصبح، أو هى أصبحت بالفعل، بمثابة «حيوانات للتجارب»، وآسف لاستخدام هذا التعبير الصادم الفظ، يتم العبث فى خصائصها المتوارثة غير المرغوبة، وزرع خصائص أخرى مختلفة تتفق ومصالح هذه القوى الفاعلة المتربصة، والمتلمظة للانقضاض وافتراس الضحية! مَن هى إذن هذه القوى والهيئات والتشكيلات السياسية والاقتصادية والإعلامية والثقافية، العالمية، أو الكوكبية، أو الكونية، التى تلعب فى طبائع الشعوب ومقومات الدول، وتعبث فى أعماق تكويناتها الإنسانية الموروثة على مدار آلاف السنين، على هذا النحو؟ وما طبيعة مصادر قوتها التى تقف خلف كل ما يُرسم لنا، ولغيرنا، من أدوار، تُفتت بنيتنا التاريخية، وتخدم حاجاتنا أو مصالحنا؟
وهل هناك من مخرج لمواجهة هذا التحدى، أم أنه قدر ساحق ماحق، لا قدرة لشعوب كشعوبنا على مواجهته، ولا قِبل لنا إلا بالانصياع لإرادته القاهرة؟ أسئلة مهمة للغاية، نتابع استطلاع رأى الكاتب فيها، ورؤيته لها.