رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

استغاثة البنات ومجلس النواب الحالى


يبدو أننا فى حاجة إلى صرخات أعلى صوتًا واستغاثات ذات صدى أكبر حتى نتمكن من إنقاذ بنات وإناث مصر من جريمة الختان، حتى يمكننا سن قوانين أغلظ وأكثر ردعًا لجريمة ختان الإناث التى فى تقديرى لا تقل عن جريمتى قتل أنثى أو اغتصاب أنثى، لأن «الجرائم الثلاث» تستحق أن يصدر لها مجلس النواب الحالى أشد عقوبات، وألا تتأخر قوانين العنف ضد النساء، أو أن يتم تأجيلها إلى دورات أخرى.

وأنا شخصيًا لى ذكرى لا تزال تسكننى مع واقعة أليمة حدثت لطفلة تسكن فى دور أسفل دورنا فى العمارة التى كنا نقطن بها أنا وعائلتى بمنطقة الدقى حينما كنت ما زلت طفلة ذات ١٠ أعوام.. وهى واقعة لن أنساها ما حييت، وما زالت ماثلة أمامى حتى يومنا هذا.. لم تبرحنى يومًا ما.

كان يومًا أليمًا سمعت فيه صرخات متتالية واستغاثات عالية الصوت لطفلة صغيرة من الأرياف، كانت تعمل عاملة نظافة فى الدور الذى فى أسفل شقتنا فى نفس العمارة التى كنا نقطن بها فى سنوات الطفولة.. أنا لن أنسى ما حييت صوت صرخاتها العالية المستمرة مما جعلنى أختبئ فى غرفتى خوفًا ورعبًا من صرخاتها.. ولما سألت عاملة النظافة فى بيتنا عن سبب الصرخات التى دوت فى العمارة ذهبت تسأل ثم عادت لتقول لى إنهم كانوا يجرون للفتاة الصغيرة عادة ريفية اسمها «الختان»، وهى عادة متوارثة فى الأرياف يجريها معظم العائلات لبناتها، ولهذا كانت تصرخ.

وحينما خرجتُ من باب بيتنا يومها رأيت رجلًا يخرج من باب الشقة التى فى أسفل شقتنا وكان يحمل حقيبة صغيرة فى يده ومعه امرأة فى منتصف العمر ورجل آخر بجلباب يصحبه إلى السلالم.. لحظتها لم أفهم مغزى «الختان» أو كيفية إجرائه لكننى اعتقدت أنه عقاب للبنت لأننى سمعت صرخاتها المدوية.. ولم أنسَ بعدُ شكلها المنكسر وحزنها الواضح وملامحها واختفاء ابتسامة بريئة كانت تظهر على وجهها كلما رأيتها فى العمارة وكلما أعطيتها قطعة شوكولاتة صغيرة من حقيبة مدرستى.

أحسستُ بعد هذه الواقعة الأليمة بأنهم قد قتلوا ابتسامتها وطفولتها وقضوا على قدرتها حتى على الكلام.. بعدها وبعد أن بدأت أكبر وبعد أن تخرجت فى الجامعة فهمت معنى جريمة «الختان» البشعة التى تجرى للبنات وللنساء، وأنها كجريمة القتل تمامًا، وجرح عميق يظل غائرًا فى جسد أى فتاة أو طفلة أو امرأة تجرى لها ويبقى طول العمر وتبقى آثاره فى نفسية الفتاة إلى الأبد.

ولهذا آليت على نفسى أن أدافع عن البنات ضد مثل هذه الجريمة التى تحدث لهن لمجرد كونهن إناثًا، وآليت على نفسى أن أكتب وأن أقف ضد كل صور العنف والذل والقهر التى تعيشها البنت والمرأة المصرية.

وحينما بدأت الكتابة أخذت عهدًا على نفسى أن يصبح من مسئولياتى الدفاع عن البنات والسيدات فى مواجهة العنف والممارسات المذلة التى تواجههن طوال العمر.

وهكذا بدأت أطالب- وما زلت- بالتصدى للعنف ضد المرأة والبنت المصرية، كما طالبت على مدى سنوات بتغليظ العقوبات لتتناسب مع الجرائم التى ترتكب ضدها، كما طالبت بالقضاء تمامًا على «الختان» وليس فقط التصدى له.

وأنا حاليًا أطالب بتغليظ عقوبة ختان الإناث بما يمكننا من القضاء على هذه الجريمة البشعة تمامًا فى حق بنات وإناث مصر. ومنذ سنوات كتبت مطالبة بتوقيع ذات العقوبة المناسبة على من قام بتلك الجريمة البشعة للبنت وعلى من طلب إجراءها لها، سواء أكان الأب أو الأم أو من علم بها ولم يبلغ.. فكلهم شركاء وكلهم يتساوون فى الجريمة الأليمة.

إنها جريمة لا تزال تجرى فى وضح النهار وتساق فيها البنت الصغيرة أو الأنثى غدرًا دون علمها ودون إرادتها ليتم اقتطاع جزء من أعضائها التناسلية وهى لا تزال حية، وكأنها شاة تساق للتضحية بها بلا رحمة وبلا خوف من عقاب.

إنها عادة إفريقية أتت إلينا من إفريقيا وتمارس فى البيوت أو فى عيادات الأطباء، وتحت ذريعة شرف البنت وعفتها، رغم أن شرف البنت يكمن فى عقلها وفكرها وطريقة تربيتها وتنشئتها بشكل سليم على القيم والمسئولية والكرامة واحترام ذاتها وجسدها وكيانها منذ مولدها، لكن هذه العادة جاءت إلينا فى مصر من إفريقيا وزرعناها فى بلدنا وتمت ممارستها تحت بند الشرف.

وأخيرًا لا بد أن أقول إنه قد تمت خطوة إيجابية، قام بها مجلس الوزراء من أجل التصدى لجريمة «الختان»، حيث أقر تعديلات فى قانون العقوبات، وتم تقديم هذه التعديلات بتغليظ العقوبات إلى مجلس النواب السابق الذى أبدى ملاحظات عليها، ثم تم مؤخرًا تسليم مشروع قانون حول تغليظ عقوبة ختان الإناث إلى مجلس النواب الحالى برئاسة المستشار حنفى جبالى، والتى وافق عليها مجلس الوزراء فى جلسته رقم ١٢٧ بشكل نهائى، وذلك لإعداد ملاحظات البرلمان حول مشروع تغليظ العقوبة على ختان الإناث ثم تمت إعادته مرة أخرى إلى مجلس الوزراء للتعديل فى ضوء ملاحظات البرلمان.

وكانت التعديلات قد تمت فى المادتين ٢٤٢ و٢٤٢ مكرر، حيث نص التعديل فى المادة ٢٤٢ مكرر على أن يعاقب بالسجن مدة لا تقل عن ٥ سنوات كل من أجرى ختانًا لأنثى لإزالة جزء من أعضائها التناسلية أو سوّى أو عدّل أو شوّه أو ألحق إصابات بتلك الأعضاء.

فإذا نشأت عن ذلك الفعل عاهة مستديمة تكون العقوبة بالسجن المشدد مدة لا تقل عن ٧ سنوات، أما إذا أفضى الفعل إلى الموت تكون العقوبة السجن المشدد لمدة لا تقل عن ١٠ سنوات، وتكون العقوبة السجن المشدد إذا كان من أجرى الختان طبيبًا أو فردًا ينتمى لمهنة التمريض.. فإذا نشأت عن جريمته عاهة مستديمة تكون العقوبة السجن المشدد مدة لا تقل عن ١٠ سنوات.

أما إذا أفضى الفعل إلى الموت فتكون العقوبة بالسجن المشدد لمدة لا تقل عن ١٥ سنة ولا تزيد على ٢٠ سنة، كما تقضى المحكمة بعزل الجانى من وظيفته الأميرية مدة لا تزيد على ٥ سنوات إذا ارتكبت الجريمة بسبب أو بمناسبة تأدية وظيفته، وحرمان مرتكبها من ممارسة المهنة لمدة مماثلة، وغلق المنشأة الخاصة التى يجرى فيها «الختان».. ونشر الخبر فى جريدتين وبمواقع إلكترونية يقرره الحاكم على نفقة المحكوم عليه.. كما يعاقب بالسجن كل مَن طلب ختان أنثى وتم ختانها بناءً على طلبه، كما يعاقب بالسجن كل مَن روّج أو شجّع أو من دعا بإحدى الطرق المبينة بالمادة ١٧١ لارتكاب جريمة ختان أنثى ولو لم يترتب على فعله أثر.

وإنها فى تقديرى خطوة إلى الأمام، فمجلس الوزراء قد قام بالاهتمام بالطفولة وبإجراء مشروع تعديلات فى القوانين المصرية من أجل التصدى للختان، وذلك بتغليظ العقوبات.

لكننى أتوقف عند ملاحظتين أساسيتين، «أولاهما» أن السجن ٥ سنوات مدة لا تكفى لإحداث الردع المطلوب فى مجتمع لا يزال ختان الإناث يجرى فيه بأعداد كبيرة وبنسبة تصل إلى ٩٠٪ من الإناث حسب الأرقام التى أصدرتها منظمة اليونيسف الدولية التابعة لمنظمة الأمم المتحدة فى عام ٢٠١٧، كما أصدرت دار الإفتاء المصرية فتوى واضحة بأن الختان عادة متوارثة وليست من تعاليم الدين الإسلامى، كما أكد ذلك رجال الدين المسيحى أيضًا.

و«ثانيتهما» أنه فى حالة وفاة الفتاة أو الأنثى الناتجة عن هذه الجريمة البشعة فإن ١٠ سنوات ليست مناسبة فى تقديرى ولا كافية كعقاب مهما حاولنا أن نشرح ذلك، فالذى أجرى الختان بشكل أفضى إلى الموت هو كمن قتل الفتاة مرتين، مرة بأن قطع جزءًا من جسدها وهى حية، ومرة أخرى أنه تسبب فى وفاتها، وأقل ما يمكن أن يعاقب به هو الإعدام أو السجن المشدد.

إن جريمة «الختان» فى تقديرى تُماثل جريمة القتل لأنها جريمة تُشوه أعضاءها التناسلية وتجعلها تعانى جسديًا ونفسيًا فى حياتها بعد ذلك والى الأبد، كما تجعلها تشعر بالدونية وبأنها جاءت إلى الحياة باعتبارها عورة غير مرغوب فيها ويتم تعذيبها كأنها كائن غير كامل الأهلية.

لهذا فإننى آمل وأرجو أن ينظر مجلس النواب الحالى بعين الاعتبار إلى ضرورة إسراع الخطى فى إصدار تشريعات تتناسب مع جريمة ختان الإناث فى مصر، والتى ستكون خطوة تاريخية فى حماية حقوق النساء والبنات فى مصر تحسب لمجلس النواب الحالى وتحسب للحكومة الحالية، وخاصة أننا فى وقت يقف فيه رئيسنا عبدالفتاح السيسى داعمًا وراعيًا لحقوق وكرامة المرأه المصرية.

وما زلت أقول إن القضاء على ختان الإناث خطوة ضرورية لإنقاذ نساء وبنات مصر من هذه الجريمة البشعة المتوارثة.