رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حتى لا ننسى.. قصة الإخوان مع القضاء «1 - 2»


لأن الناس تنسى لذلك يجب أن نستخرج لهم الحقيقة قبل أن يموت خبرها وسرها، فالموت هو نهاية كل حى، كل شىء هالك، حتى الأخبار تموت، والجماعات أيضًا، فلن ولم تعش جماعة، أو يخلد إنسان، أو يبقى حاكم على كرسى الحكم، فكلنا إلى زوال.

والحاكم الحكيم هو الذى يدرك ذلك، أما الحاكم الأرعن فهو الذى يأخذ منه الغرور مأخذًا كبيرًا، فيظن أن حكمه سيبقى ولن يزول، وغرور القوة والسلطة هو الذى يودى بالإنسان والجماعات والدول، والزعم بامتلاك الحقيقة هو قمة الغرور، والتجرؤ على الله سبحانه هو الغرور ذاته.

وإذا أردنا أن نقرأ واقع الإخوان وقت أن حكموا مصر، سنجد أنهم وقعوا فى كل المفاسد العقائدية، وتجرأوا على الله سبحانه، وقال مغرورهم الأكبر خيرت الشاطر إنهم سيحكمون مصر خمسمائة عام، قالها وكأن الله فتح له مغاليق الغيب! ومن بعده دخل مهدى عاكف إلى بوابة من بوابات الغرور والغطرسة والشعور المتعالى بالذات فقال: سنقوم بتعديل قانون السلطة القضائية بتخفيض سن القضاة، وسيترتب على ذلك خروج نحو ثلاثة آلاف قاضٍ إلى المعاش، وسنقوم بتعيين غيرهم.

كان الهدف من خطة مهدى عاكف هو تمكين الإخوان من القضاء، وأقول خطة مهدى عاكف، رغم أنه كان مرشدًا سابقًا، وما ذلك إلا لأن كل واحد منهم كان يشارك مرسى فى حكم البلاد، ومهدى عاكف كانت له مساحته من الحكم يرتع فيها كما يشاء.

ولأنه طوال عمره كان مندفعًا أهوج، لذلك كان يخرج منه الكثير من العبارات التى تكشف سوأتهم، مثلما قال: «طظ فى مصر» وغيرها من القبائح، وعند تلك العبارة سأتوقف لأقول: ليس فى كلماتى أى شماتة، أو تشف فى موت رجل، ولكن تحليل السياسات يقتضى تحليل الرجال الذين قاموا بهذه السياسات لنعرف بواعثهم ومقاصدهم.

والآن أعود للموضوع مرة أخرى، والحديث عن خطتهم وقتها بخصوص مواجهة القضاء، وكان أعلى ما يسعون له هو مصادرة القضاء لمصلحتهم، فالقضاة هم الذين سيشرفون على الانتخابات البرلمانية، ثم هم الذين سيشرفون على الانتخابات الرئاسية، وهم الذين سيجلسون فى دوائر الجنايات ليصدروا الأحكام على خصومهم السياسيين، ولذلك يجب أن يكون القضاء إخوانيًا.

من هنا أقول إن العار الذى لحق بشلة «فيرمونت» لن يمحوه التطهر فى النهر المقدس، لأنهم ظنوا بغباء منقطع النظير أنه إذا أظهر الإخوان فسادًا أو ظلمًا فإن مظاهرات حاشدة فى ميدان التحرير تكفى لسقوط حكمهم، فإن لم تسقطهم المظاهرات فإن أى انتخابات رئاسية قادمة ستبعدهم تمامًا عن الحكم.

ولأن شلة «فيرمونت» تحَكم فيها الغباء، فإنها لم تدرك أن الإخوان يخططون للاستيلاء على حكم مصر بشكل أبدى، وكان القضاء الإخوانى هو الذى سيعطيهم ذلك الأمل، لذلك كان القضاء مقصدهم الأعلى، ومعه مقاصد ذات أهمية قصوى منها الشرطة والجيش والمخابرات العامة، ولكنهم وقعوا من فرط طمعهم وتكسرت عظامهم.

هكذا هم الإخوان، وهذه هى حالهم، وهذه مصر برجالها وتاريخها وحضاراتها وأقدارها وثوراتها تتأبى على الدخول فى بيت الطاعة الإخوانى، ولكن هناك من لا يقرأ التاريخ ولا يعرف الحاضر، فأعد لنفسه جوالًا من الأمانى وظل يملؤه بنفائس مصر، فوضع الجيش مع الشرطة مع القضاء مع قناة السويس مع نهر النيل، وهلم جرا، ثم أحكم غلق الجوال، وجلس متخمًا من فرط غروره، ثم عنّ له أن يطمئن على بضاعته، ففتح الجوال فإذا به خالٍ.

كان هذا هو الإعلان الدستورى الذى أصدره محمد مرسى فى الثانى والعشرين من نوفمبر ٢٠١٢، وفى الإعلان الدستورى وضع الجميع فى بيت الطاعة، فهو كحاكم لمصر ظن أنه المتصرف الوحيد فيها، وقراراته لا تعقيب عليها، فلا قضاء يملك مراجعتها أو تصويبها، ولا جمعيته التأسيسية التى أعدتها «جماعته» لوضع الدستور يستطيع أحد الاقتراب منها، ولا «مجلس الشورى» الذى خزّن فيه رجاله تستطيع المحكمة الدستورية أن تحاكم قانون إنشائه فتبطله وتقضى عليه لعدم دستوريته، وهو من بعد الحاكم بأمره الذى يعين النائب العام فيستجلبه من بين رجاله.

لقد حاول الرجل كممثل لجماعة فاشية أن يعبث بالقضاء فعبثت به مصر كلها، وكان الإخوان وقتها يظنون أنهم فى سباق مع الزمن، فإما أن يسيطروا على كل شىء فى البلاد منتهزين الفرصة التاريخية التى لاحت لهم، وإما أن ينالوا الهزيمة من «أهل مصر»! وكأنهم فى حرب مقدسة ضد أشباح وهمية التى إن هزمتهم فستحملهم إلى الجبال النائية، لذلك رأت جماعة الإخوان أن تتقدم خطوة فى معركتها، فتضع الأغلال فى يد القضاء حتى لا يستطيع أن يراجع قراراتها التى ستسيطر بها على البلاد ومن ثم تضعها فى جوال الأمانى.

ومصر ليست هى الدولة المسحورة التى يستطيع الساحر وضعها فى جرابه، ولكنها مصر وكفى، مصر التى تلتقم ما يأفكون، مصر التى يتقدمها القضاء فى الملمات ويذود عنها الجيش عندما تحتدم المؤامرات، مصر الحديثة التى أقامها محمد على على عمودين لا ثالث لهما، العمود الأول كان هو الجيش الذى أشرف على إنشائه سليمان باشا الفرنساوى أو الكولونيل «سيف»، والعمود الثانى كان القضاء عندما أنشأ المجالس القضائية المحلية، ومجالس التجار القضائية إلى أن أخذ القضاء طريقه إلى التحديث فى العهود التى تلت محمد على.

ومصر القضائية لم تكن لتركن إلى تأليه الحاكم لنفسه أبدًا، ولم تكن لتقبل أن تكون قرارات الحاكم، أى حاكم بمنأى عن الرقابة والمراجعة والإلغاء والتصويب، «مصر القضائية» كانت تعلم أن هذا الإعلان الدستورى لم يكن رمية من غير رامٍ، أو طرقًا على طبول الحرب بلا داعٍ، فالمثل الذى يقول للدب: «كم أكلت من العسل؟، فقال الدب: وكيف علمت، قال: من أثر العسل الذى يسيل من فمك» والإخوان بإعلانهم الدستورى هذا كانوا يرمون إلى البدء فى تغيير التركيبة المصرية تمامًا، من دولة إلى إمارة، ولكن مصر تأمر، ولا تُأَمر.