رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فرانز بارتل.. الاستثنائى فى الأدب


ثمة مدرسة صحفية عريقة تقول: «لا تكتب عن كلب عقر شخصًا، اكتب لو أن شخصًا عقر كلبًا».. والقصد ألا تتناول ما هو مألوف واعتيادى، لكن ابحث عن الاستثنائى، النادر، الغريب، قد يكون ذلك مفهومًا فى الصحافة المرتبطة بضرورات التوزيع، لكن الأمر يختلف تمامًا فى الأدب والفن.
تطرح ذلك السؤال المجموعة القصصية «حانة العادات»، تأليف الكاتب الفرنسى فرانز بارتل، ترجمة عادل أسعد الميرى، وهو سؤال مهم نظرًا لأن الكثيرين من الكُتّاب الشباب يلهثون وراء الغرائب وكل ما هو استثنائى وفريد من نوعه.. تضم المجموعة ست عشرة قصة قصيرة تتناول جميعها شخصيات يستحيل تقريبًا أن تراها فى الحياة وأحداثًا تكاد لا تقع بالمرة.

وفى قصة «وجه القاتل»، على سبيل المثال، نرى «جيف» الشخصية الرئيسية يتسلى بتقليد وجه قاتل لأطفال العائلة بتكشيرة مرعبة وعينين جاحظتين، ومع الوقت يكتشف «جيف» أن لديه بذلك التقليد قوة وسلطة تمكنانه من أن يخيف الآخرين، فيتمكن بإثارة الخوف من حل بعض مشكلاته اليومية، وهكذا إلى أن يلتقى «جيف» امرأة تبادله الحب، لكنها تطلب منه خلال العلاقة الحميمة أن يرعبها بوجه القاتل، لأن ذلك يثيرها، فيستجيب لها، ثم تتمادى وترجوه أن يخنقها خلال ذلك، فيفعل، فتتجه المرأة لتشكوه إلى الشرطة بدعوى أنه كان يعتزم قتلها! وفى نهاية القصة تؤكد له أنها قدمت شكواها ليترسخ بداخلها أنه مرعب، ومن ثم يزداد عشقها له.
نحن إذن فى مواجهة حالة استثنائية سواء من ناحية الحدث أو الشخصيات أو خلاصة العمل الأدبى، على هذا المنوال تمضى بقية قصص المجموعة، مثل قصة «ذكرى فريد» الذى سافر فى رحلة إلى إفريقيا، فعاد من هناك أسود اللون!، وكذلك قصة «قاتل تسلسلى» وغيرهما.
عامة نحن إزاء وقائع استثنائية وشخوص يستحيل تقريبًا أن يكون لها وجود فى الواقع، ولا شك أن تناول الأحداث الاستثنائية يخرج بالأدب والفن عن مدار التكرار والتقليد والرتابة، إلا أن السؤال الذى يطل برأسه بقوة: ثم ماذا؟
نحن نقرأ مثل هذه القصص بنهم، لكن ماذا بعد؟ تظل تلك الحالات الاستثنائية مجرد وقائع غريبة، باهرة، طريفة، مسليّة، ما لم تنفذ إلى حقيقة أبعد وأعمق، وعلى سبيل المثال فإن رواية جوناثان سويفت «١٦٦٧- ١٧٤٥» الشهيرة «جوليفر» تقوم بجزءيها على احتمال استثنائى أن يصبح الإنسان مرة عملاقًا بين أقزام، وأن يغدو مرة أخرى قزمًا بين عمالقة، لكن «سويفت» يستخدم ذلك الاستثنائى لكشف الواقع عندما يقول لنا إن الإنسان يحتوى على كل مواطن القوة والعملقة، ويحتوى أيضًا على كل مواطن الضعف والتقزم. عند «سويفت» أصبح الاستثنائى أداة لكشف الحقيقة، وفى ذلك السياق هناك أيضًا قصة «الأنف» لجوجول، التى نشرها عام ١٨٣٦، فى القصة يستيقظ «كوفاليوف» وحين يحدق بالمرآة لا يجد أنفه! فيخرج لتقديم بلاغ إلى الشرطة، وفى الطريق يرى أنفه مرتديًا بذلة أنيقة ويركب عربة خيول، يطارد «كوفاليوف» أنفه ويطلب منه العودة إلى وجهه، لكن الأنف يرفض!.. بالطبع نحن هنا إزاء حدث استثنائى وشخصية استثنائية، لكن هذا وذاك يتم استخدامهما للكشف عن الحياة الروسية حينذاك وأناسها وطبيعة العلاقات فى المجتمع، ومن ثم فإن الحدث الاستثنائى لا يتوقف عند كونه حدثًا طريفًا أو نادرًا، لكنه يمسى وسيلة لكشف حقيقة ما.
يلجأ «كافكا» إلى ذلك فى روايته الشهيرة «المسخ»، التى نشرها عام ١٩١٥، وفيها يستيقظ التاجر «جريجور سامسا» ليجد نفسه وقد تحول إلى حشرة بشعة، ولكن «كافكا» لا يتوقف عند استثنائية الحدث، أو لمجرد أنه حدث يكسر رتابة الأدب، لكنه ينطلق من ذلك ليؤكد أن الاغتراب قد يسحق الإنسان حتى لا يعود إنسانًا.. الحالات الاستثنائية فى الأدب لا بد أن تكون طريقًا لفهم الحالات العامة غير الاستثنائية، أو أنها ستبقى، كما هى عند «فرانز بارتل»، مجرد حالات مسلية ومشوقة، لكن الإنسان لا يكتفى بذلك فى الأدب.
وقد كان للروسى العظيم «تشيخوف» سؤال قريب من الموضوع حين قال: «لا أدرى لماذا يعشق البعض قصص الأشباح التى تظهر فى الليل، مع أن بالحياة الكثير من الأشياء المرعبة حقًا؟!».