رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الصعود الخاطف والانحدار السريع «3»



قررت الذهاب لحديقة جروبى فى شارع عدلى الساعة التاسعة صباحًا، وما زالت المدينة تتحسس فراشها لم تستيقظ كليًا استجاب بعض أعضائها لضوء الصباح، بينما ما زالت البقية فى خدر الليل الذى يتوه فى الطرقات ولا تدرك حقيقة ما الذى تستجديه بطول السهر سوى حالة من الأرق المزمن والهروب من الوحدة ومواجهة النفس بافتعال مزيد من الصخب الفارغ.
لم أتوقع أن يكون أول من يقابلنى عاملة فى ملابس سوداء تأخرت فى رى الزرع فى الحديقة، صدمنى تجمع برك الماء على الأرضية الحجرية، وإن تجانست فوضويتها مع النافورة الراكدة ومياهها العطنة والطحالب الخضراء المتجمعة حول قاعدة التمثال الخزفى.
جلست تحت أكبر شجرة فى مواجهتى، تجسمت الواجهة الخلفية، بناء ستينى من الجص الأبيض، التصميم معتاد ومنتشر يشى بانضباط وتقشف روحى، والوحدات الزخرفية مجرد تكرارات تشغل الفراغ ولا تملأه، يكفى أن تتأمل وحدة واحدة، لتعرف شفرة بقية الوحدات، وحدة واحدة تكفى، ليس غنى ولكن تقشفًا وفقرًا فى الخيال، حتى تنفيذها- بمجرد قليل من الانتباه- تدرك أنها مصبوبة فى قوالب، فلا دفء أصابع مستها، ولا روح نفخت فيها، فظلت جمادًا يؤكد الفراغ.. أين اختفت أشجار اللبلاب التى كانت تنتشر على الجدار وتتمدد معها الحياة، فتغطى كل ما هو ميت أو زائد من مواسير الصرف والطلاء المقشر وتجاعيد الأيام؟
جاءت النادلة، شابة قصيرة القامة وجهها شاحب مرهق مجدب من تراكمات الشقاء والحاجة المعنوية والنفسية، شعر هائش يجمعه للخلف ويربطه ذيل حصان، فتتناثر أطرافه المقصفة التى تعانى من هشاشة تعكس نقصًا فى المغذيات الضرورية كالبيراتين والكالسيوم، ويصبح قصر القامة لا علامة أنوثة واكتناز، ولكن دلالة فراغ وحالة تخوخ، عندما اقتربت ظهر لى خط الشعر المتراجع عن الجبهة وانتشرت رائحة نفاذة أخبرت مع اللمعة العاكسة رداءة ماركة الكريمات التى تستخدمها الفتاة.
طلبت قهوة سادة دبل، لا شىء يناسب حالة الفقد التى أشعر بها سوى المر الغامق، لم تكن النادلة نتوءًا شاذًا يمكن استئصاله، أو معالجته، فقد ظهرت نادلة أخرى من باب جانبى للبار لا تختلف كثيرًا، شعر متجمع تحت إيشارب أزرق رخيص القماش، جيب طويل كالحة، حذاء أسود يتناسب مع خطوات زاحفة وأقدام دهسها الـ«فلات فوت»، فلم تجرب خطوات «الغندرة والبخترة»، والنظرات زائعة لا تتطلع لنظرة دافئة أو أمل أو طموح، لا أمل بل مزيدًا من تكريس وتكديس الإحباط.
قدمت القهوة دون مناديل، نظرت للأرض الحجرية التى تحتاج لجلىٍ ودعم لمناطق التصدع والهبوط، حاولت التثبت من صوت المطرب الذى يتردد فى الهواء «عمرو دياب»، جاهدت لترديد عبارة من الأغنية «كلنا بنقول هننسى وإحنا لسه منسيناش»،
دخلت شابة مع خطيبها لا تفرق كثيرًا عن النادلة، غير أنها بدينة، هناك خلط غير مفهوم لا حدود، أو معالم تفصل بين الزبونة والنادلة، السائق وصاحب السيارة، هناك خلط، اضطراب، فجاجة.. تدنٍ فى الذوق والرشاقة والأناقة.
الغرباء يجلسون على طرف العالم فى انتظار حافلة تأخذهم لطرف أبعد، تتمدد الأطراف، ويظلون على الهامش، يتغير متن العالم، وتنتقل مراكز الثقل، لكن حافلات الأطراف لا تغير خطوط سيرها، مشدودة برباط خفى لخطوط الطول والعرض. هذا يكفى.. طلبت الحساب.
قدمت حافظة الفاتورة ويداها تقطر بالماء، تكاد تجفف يديها فى مريلتها السوداء الكالحة، دفعت الحساب، أعادت باقى النقود، وعلى الحافظة الجلدية تركت أصابعها المبللة بالماء بصمات لا تشجع على قراءتها أو تتبع خطوطها.
لم يتبق من هذا المكان غير ذكرياتى.. غيرت فكرة أن أصحب «أروى».. سأخسر عالمى الذى لن يصمد أمام عالمها.
- جدو أحضرنى لك فى جروبى.
- لا اختارى أنت المكان وسأصل لك.
بقى شىء واحد علىَّ تجربته، الحمام، نزلت الدرجتين، المناديل والمواد المطهرة على طاولة بيضاء، علامة للرجال للداخل، على عكس معظم دورات المياه التى تجعل جزء دورة النساء فى الداخل.. كان نظيفًا، لكنه لم يكن براقًا أو أنيقًا، مكان يفى بالغرض دون دعوة للإطالة.
ألا يكفى هذا.. يدفعنى التحتان إلى دخول الصالة الكبيرة، أشترى علبة من بسكويت السفارى الإيطالى، سألت عن الترواكوشو، مدت العاملة يدها بواحدة سحبتها من رف الفريزر، لكن غلاف العلبة كان موضوعًا بشكل خاطئ.. أيس كريم فراولة، تراجعت عن طلبه سيذوب.
أثناء جلستى مع أروى طلبت رغيفين من خبز الباجيت بالطماطم المجففة، نصف كيلو سفرجل مسكر، تركت العاملة الطلبات أمام «الكاشير»، كأنى سأحملها، فكرت فى لحظة للانصياع للواقع، خاصة أن العلبتين خفيفتا الوزن، لكنى لم أفعل، وأمرتها بأن تجعل أحد العمال يحملهما إلى السيارة.