رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عبوات معدنية صغيرة



عام ١٩٦٧ تعرضت مصر لهزيمة عسكرية مؤلمة، ظلت آثارها فى نفوس كل من عاشوا تلك اللحظة التى أنزلت الجميع من سماء الأحلام بالاشتراكية والوحدة والتحرر الوطنى إلى قاع من التشاؤم والحزن، وباقتراب عام ١٩٧٢ لاحت فى السماء مجددًا نذر التحرير والحرب التى مهدت لها حرب الاستنزاف، وبفضلها حافظ الجيش المصرى على حيويته وكفاءته نتيجة التدريب الذى لم ينقطع.
وعندما بدأت الاستعدادات لحرب أكتوبر، تلقى مصنع الحديد والصلب بحلوان تعليمات متكتمة بصناعة آلاف العبوات المعدنية الصغيرة لكى تحتوى على الأغذية المحفوظة، وكان مفهومًا من دون تصريحات أو حديث مكشوف أن تلك العبوات ستكون مؤونة الجيش حين تدق ساعة القتال.
فى ذلك الوقت راحت أجهزة المخابرات الدولية، وفى مقدمتها الموساد الإسرائيلى، تنقب بكل الوسائل، ومن خلال كل العملاء، عن أى معلومات تؤكد نية مصر خوض الحرب، حينذاك كان مصنع الحديد والصلب قد بدأ فى إنتاج تلك العبوات المعدنية الصغيرة، وكان الآلاف من العمال، الذين عاشوا حينذاك، يخمنون ويدركون تمامًا أن ما يقومون به كل يوم أمام لهب الأفران جزء من تحرير مصر، وجزء من معركتها، لكن أحدًا منهم لم يفتح فمه بكلمة ولم يبح بحرف حتى لزوجته أو أبنائه.
كان آلاف العمال يتحركون فى صمت فى صحراء حلوان، يسيل العرق على جباههم، منهمكين فى تصنيع تلك العبوات الصغيرة التى أطلق عليها «الإشارة والبشارة»، كانوا يعملون فى صمت بلا توقف، ويتنقلون بين العنابر ويهزون العلب الصغيرة بأياديهم لبعضهم البعض، وفى عيونهم يلمع الأمل أن مصر ستنتصر وستهزم العدوان.. آلاف من العمال البسطاء الأبطال الذين لم تلتقط أى عدسة صورًا لوجوههم ولا لحبات عرقهم ولا لدقات قلوبهم المتسارعة وهم يشعرون ويفكرون ويضطربون ويفرحون لأنهم يسهمون فى تحرير مصر بعبوات معدنية صغيرة، يدرك الجميع لمن ستذهب ولماذا، فيتصل عملهم ويستمر.
لتأمين تلك البطولة الجماعية كانت هناك كتيبة دفاع جوى تابعة للقوات المسلحة مكلفة بحماية المصنع والآلاف من البسطاء الذين لم يسجل أحد أسماءهم، ولا شقت قصص حيواتهم طريقها إلى جهة، ولا قام رسام بخلق لوحة للعرق والأمل على جباههم.. ولم يكن العمال وحدهم رمز بطولة عزيزة صامتة، بل كان إنشاء المصنع نفسه بطولة تحكى قصة تحدى الاستعمار وتحويل مصر من بلد زراعى إلى بلد صناعى، حدث ذلك حين أصدر جمال عبدالناصر، والثورة ما زالت فى مطلعها، مرسومًا بتأسيس شركة الحديد والصلب فى ١٤ يونيو ١٩٥٤، فى منطقة التبين بحلوان، كأول مجمع متكامل لإنتاج الصلب فى العالم العربى، برأسمال قدره نحو مليونى جنيه موزعًا على أسهم يمتلكها الشعب، قيمة السهم جنيهان اثنان، ويتم سداد المبلغ بالتقسيط على عامين! واندفع الملايين إلى شراء الأسهم وقد أدركوا أهمية أن يكون لمصر إنتاجها من الحديد والصلب الذى تدخل منتجاته فى كل تفاصيل حياتنا، بدءًا من الصباح حين ننهض لغسل وجوهنا من الصنبور الذى يستلزم وجود صناعة الحديد، إلى باب الثلاجة التى نحفظ الطعام فيها، إلى الأتوبيسات وأعمدة النور فى الشوارع، وأيضًا البنادق والدبابات وكل ما أمد به العمال حرب أكتوبر من وسائل ضرورية للنصر.
أدرك المصريون ذلك مبكرًا، فاندفعوا إلى شراء الأسهم لكى يخرجوا بمصر من دائرة الزراعة إلى التطور الصناعى، عند افتتاح المصنع بعد ذلك بأربع سنوات، فى ٢٧ يوليو ١٩٥٨، ألقى جمال عبدالناصر خطابًا حدد فيه بدقة قصة المصنع قائلًا: «أيها الأخوة.. إن إقامة صناعة الحديد والصلب فى بلدنا كانت دائمًا الحلم الذى ننظر إليه منذ سنين طويلة، وكنا جميعًا نعلم أن الحديد الخام يوجد فى بلدنا، وأن الفراعنة كانوا بيستعملوا هذا الحديد منذ الآف السنين، ولكننا كنا دائمًا نجابه العقبات، وكنا دائمًا نجابه الاعتراضات من السيطرة الخارجية ومن الاستعمار.. وطبعًا كانت هناك أسباب خفية وكانت هناك أسباب تمنع إقامة هذه الصناعة فى بلدنا، لأن الهدف كان إبقاءنا دولة زراعية وعدم تمكيننا من إقامة صناعة فى بلدنا».
المصنع الذى أمدنا فى الحرب بالعبوات المعدنية الصغيرة هو الذى أمدنا وقت السلم بأسطوانات الأكسجين لكى نواجه وباء كورونا، وتبقى بطولة العمال حتى لو توارت بعيدًا عن الضوء الوجوه التى لم نعرفها والأسماء التى لم ننطقها، تبقى البطولة غالية ولو كانت بلا اسم.