رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هل من بديل؟ «1»




فى الأيام القليلة الماضية، احتد الجدل فى المجتمع وشغل بقوة وسائط التفاعل الاجتماعى حول قضية تجذب انتباه واهتمام الجميع، وتؤثر فى الرأى العام، بحيث يمثل تجاهل مناقشتها، وتنظيم الحوار المجتمعى بشأنها، بهدف الخلوص إلى حلول صحيحة لها، موقفًا خاطئًا له تبعات سلبية كبيرة، خاصة أن القضية انتقلت إلى البرلمان، على هيئة استجوابات عديدة، بل وإلى الجهات القضائية فى قضايا مرفوعة من أكثر من طرف بشأنها.
والقضية المقصودة هى تصفية «شركة الحديد والصلب المصرية»، الصرح العملاق الذى عُد مفخرة للصناعة المصرية، فى عهود سابقة، وقد ضاعف من حساسية الموضوع، توازى خطوات عملية تصفية هذه الشركة الاستراتيجية، مع الإعلان عن تصفية شركات مهمة أخرى، منها «مصنع سماد طلخا»، و«شركة مصر للغزل والنسيج» بكفر الدوار، وغيرهما، كما تم الإعلان رسميًا عن اعتزام الحكومة تصفية وبيع و«خصخصة» أخرى لبعض الشركات والمصانع والبنوك.
المبررات التى تستند إليها الحكومة فى هذا السياق هى أن هذه الشركات والمصانع، تشكل عبئًا على الدولة بسبب خسائرها الكبيرة المتراكمة، وأن محاولات إصلاحها باتت مستعصية، ومن ثم فقد وجب التخلى عنها والتخلص من ثقلها، بالتصرف فيها، والاستفادة مما تملكه من أصول، وأهمها الأرض، التى باتت بسبب موقعها تشكل مصدرًا كبيرًا للدخل، بدلًا من أن تظل سببًا مستمرًا فى النزيف المادى الذى لا يتوقف.
ولا يُمارى أحد فى أن أى مشروع اقتصادى، فى النهاية يستهدف تحقيق الربح، أو تعظيم الفارق بين الدخل الناجم عن تصريف المنتج، والتكاليف والمصروفات التى تتطلبها عملية الإنتاج «مواد خام ومستلزمات إنتاج، أجور ورواتب، تكاليف الطاقة، مصاريف الإعلان والترويج... إلخ»، فإذا ما زاد البند الثانى على الأول، أى تفوقت تكاليف الإنتاج على حصيلة الدخل، حدث الخلل على النحو الذى نراه فى هذه الشركات والمصانع، ومن ثم وجب البحث عن حل.
وفى بحثنا عن حل، يجب الإقرار ببضعة محددات وعناصر لها أهميتها، وهى بمثابة الخلفية التى تثار هذه القضية ضمن حدودها، ولا يمكن تجاهلها، أو التغاضى عن وضعها محل الاعتبار، لأنها تمثل «حمولة» معنوية ومادية تلقى بثقلها على الموضوع، ومن ثم من الصعوبة بمكان، إن لم يكن من المستحيل، ألا توضع فى الحسبان لدى كل أطراف القضية.
وأول هذه المحددات أننا نتحدث هنا عن صرح صناعى عملاق، يحتل فى الوجدان الشعبى موقعًا مهمًا، والحديث عنه ذو شجون، فقد كان تشييده مدعاة للفخار الوطنى، وأنشئ فى وقت كانت مصر تخوض معارك ملحمية مشهودة للاستقلال والبناء، ولذا فقد نال هذه الوضعية «الاعتبارية» المتميزة فى الوجدان الجمعى، وبما يفسر، لمن لا يدرى، ضخامة الجدل الذى أثارته قضية تصفية هذا الصرح، على نحو مغاير ويزيد كثيرًا عن الموقف من تصفية شركات أخرى.
وثانيها: أن الذاكرة الوطنية ما زالت تحتفظ لهذا الصرح بالدور الكبير الذى أداه فى معارك كبرى خاضتها مصر، وهى فى طريقها لانتزاع إرادتها من الهيمنة الاستعمارية، مثل دوره فى تشييد السد العالى، وهى ملحمة هائلة خاضت مصر بسببها معركة تأميم قناة السويس، ومعركة العدوان الثلاثى عام ١٩٥٦، وتعرضت للضغط والحصار، وصمدت حتى تم الانتصار فيها، وكان إحدى ركائز هذ الانتصار وجود مثل هذا الصرح الكبير الذى اعتمد عليه مشروع السد اعتمادًا كبيرًا، وكذلك دوره فى صمود القوات المسلحة فى مواجهة العدوان الصهيونى، على نحو ما حدث فى تقديمه احتياجات بناء حائط الصواريخ إبان «حرب الاستنزاف»، وتوفيره احتياجات القوات المسلحة من منتجاته حتى تم العبور، ويطول الحديث عن مساهماته فى مشاريع «التعمير» بعد طرد العدوان، وبناء المساكن لمحدودى الدخل وغيرها من المشروعات المهمة.
وثالث هذه المحددات أن وقت التصفية يجىء مواكبًا لاجتياح وباء «كوفيد- ١٩» للعالم ولمصر، وقد شهدت الفترة التى عمت فيها «الجائحة»، ونحن الآن فى دوامتها، إغلاقًا شبه تام للحدود بين الدول، وتعطيلًا لحركة النقل والتجارة بينها، وهو ما أعاد الجدل حول أهمية أن تمتلك كل دولة مقومات استقلالها الاقتصادى، بقدر ما تستطيع، حتى يكون بمقدورها استمرار حياة مواطنيها فى مثل هذه الظروف، وهنا تلعب هذه النوعية من الصناعات أهمية استراتيجية فائقة. ورابع هذه المحددات الواجب وضعها فى الاعتبار، هو مستقبل نحو ٧٥٠٠ عامل، يمتلك معظمهم خبرات هائلة فى مجال تخصصهم، يصعب تعويضها، وتسريحهم- حتى لو نالوا تعويضًا ماديًا مُناسبًا- يمثل خسارة قومية كبيرة تستحق التريث.
لهذا كله فإن الحوار الموضوعى الهادئ، الذى يبتغى المصلحة العامة فى المقام الأول، مطلوب وضرورى، ويستحق المتابعة.