رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

خليفة الظواهرى.. القاعدة وإشكالية القيادة «2»


تناولنا فى المقال السابق الحدث الأمريكى الذى تمثل فى خروج وزير خارجية الإدارة المنتهية ولايتها، ليعلن عن توافر العديد من الدلائل التى تربط إيران بتنظيم «القاعدة» المتهم الرئيس فى أكبر العمليات الإرهابية التى تعرضت لها الولايات المتحدة، وقع أشهرها والأكبر على الأراضى الأمريكية فى الهجوم على برجى التجارة «١١ سبتمبر ٢٠٠١».
وخارج أراضيها تعرضت السفارتان الأمريكيتان فى كل من كينيا وتنزانيا عام ١٩٩٨ لتفجيرات كبيرة فى وقت متزامن. هذه الهجمات أوقعت من الهيبة الأمنية الأمريكية ما يفوق عدد الضحايا الذى قدر بالآلاف، وتجاوز حجم الخسائر المادية التى قدرت بمئات الملايين من الدولارات. هذا استدعى حينها إعادة نظر شاملة فى جميع الخطط الأمنية الأمريكية الخارجية وأهمها جاءت مكافحة نشاط الجماعات الراديكالية المسلحة، ربما جرى هذا فى البداية عقب الهجوم على السفارات، لكنه تطور وذهب لأبعد من ذلك بعد هجوم البرجين، حيث ارتأت الولايات المتحدة حينئذ، أن تخوض حربين كاملتين وتحتل دولتين أعلن- وفق الرؤية الأمريكية- أنهما ترعيان النشاط الإرهابى بصورة أو بأخرى.
إذن وفق تلك الصورة التى تشوشت لاحقًا؛ خاصة فيما جرى بالعراق، يفترض بأن الولايات المتحدة منذ تاريخ ١٩٩٨ من القرن الماضى وهى منخرطة فعليًا، فى الحرب على تنظيم «القاعدة» وملاحقته وجمع كل المعلومات ذات الارتباط بالتنظيم وعناصره. حققت فى جولات ومسارح عدة بعضًا من الانتصارات، وبقيت مسارح أخرى عصية على اقتلاع التنظيم منها، حيث بدت أكثر تعقيدًا مما ظنته الرؤية الأمنية الأمريكية، بل هناك من ذهب إلى أن الحرب الأمريكية على «القاعدة» أعطت للتنظيم شهرة وأضافت إلى قدراته زخمًا إضافيًا، لم يكن يحوزه قبل وضعه فى الطرف المقابل لما تسمى بـ«الحرب على الإرهاب». والجدير بذكره أن تاريخ ١٩٩٨ حمل أول حصيلة كبيرة من المدنيين الضحايا لهذا النوع من النشاط المهدد، الذى توسع فيما بعد ليصير أكبر إشكاليات تلك الظاهرة، حيث يظل عامل سقوط المدنيين فى أى منطقة تتعرض للإرهاب يمثل عامل ضغط مضاعف على الأجهزة الأمنية والعسكرية المكلفة بأعمال المكافحة، فى أى من مسارح الحرب المختلفة أو الدول بشكل عام.
لكن بالعودة إلى «القاعدة» التنظيم، الذى تناولنا مظاهر الإشكاليات التى يتعرض لها فى الوقت الراهن، حيث يظل أبرزها غياب وتخلخل الشرائح القيادية للتنظيم، لاسيما أن عمل وتماسك هذه التنظيمات ذات الخلفية الراديكالية وصبغة النشاط المسلح، يجعلان أهمية «القيادة» وحجم ارتباط العناصر المنخرطة من أهم سمات عمل التنظيمات، ويشكل عامل استقرار القيادة وكاريزميتها أمرًا محوريًا لا غنى عنه بأى حال، باعتبار سيناريوهات غياب هذا الأمر تدفع بالتنظيمات الكبيرة التى لها أكثر من فرع فى بلدان ومناطق أخرى، إلى مشاهد التشظى والانشقاقات، ومن ثم التحلل، أو أى من أشكال الأفول الأخرى. تنظيم «القاعدة» الذى مثل حالة الريادة فى مفهوم «الإرهاب الدولى»، بقدرته منذ ثمانينيات القرن الماضى على إنشاء وإدارة عدد من الفروع القوية فى مناطقها، التى نجحت فى صياغة أكثر من خطة وخريطة عمل اتسمت بقدر عال من المرونة وفق مقتضيات كل مسرح على حدة، كما مكنت هذه الفروع من التعايش والتمدد فى بيئتها، فى الوقت الذى تعرض فيه «المركز» إلى ضربات عسكرية وأمنية ساحقة، نزعت عنه كل الإمكانات المادية للعمل المسلح الذى يظل هو نشاط التنظيم الرئيسى، ليتحول مع الوقت إلى ما يشبه «المقر المركزى» للإدارة، حيث يختص بإصدار البيانات والتعليمات وغيرهما من التعليقات وتسجيل المواقف على الأحداث، فى نمط أقرب للعمل الرمزى والإدارى منه إلى أى شىء آخر.
فى حين انتقلت القوة الضاربة لـ«الفروع»، الذى أسهمت السنوات العديدة التى مضت فى تثبيت وتجذر أقدامها، فى مناطق نجحت فيها أيضًا فى حل مشكلات التمويل لتبدأ فى الإنفاق الذاتى على نشاطها وعناصرها، مما يجعل بقاءها على قيد الحياة مرهونًا بمهارتها فى إدارة الفرع، وقدرتها على نسج التحالفات مع المكونات المحلية فى مناطق تتشابه عادة فى ملمح الهشاشة والسيولة الأمنية. وتبقى عملية الارتباط بالمركز لها طابع رمزى وتاريخى يقوم الفرع باستثماره فيما اقتضت الضرورة، حيث تفوقه فى الأهمية صيغة التعايش التى يستوجب على الفرع المحلى أو المناطقى، أن يصيغها على نحو متماسك تمكنه من تجنيد وتجديد عناصره، وتربطه بالمنطقة التى يتفاعل داخل طيات أحداثها السياسية والاجتماعية بقضية يمكن العمل تحت ردائها. وهذا أمر شديد الأهمية رغم ذهاب تلك الفروع عادة للعمل بصيغ براجماتية، لكن الفرع من التنظيم يحتاج طوال الوقت إلى سردية ولو- مزيفة- يمكنه تسويقها، وتبرير الدمار والانتهاك الذى يغلف أنشطته عادة فى مختلف المناطق أو البلدان التى يتواجد بها.
الفرع القاعدى «حركة شباب المجاهدين» فى الصومال، يعد من أكبر وأشرس فروع القاعدة، ويمثل نموذجًا متكاملًا لكل ما ذكرناه سلفًا فيما يخص قوة وفاعلية الفرع وقدرته على استثمار كامل مكونات الحالة الصومالية، بنمط نموذجى تمكن من خلاله أن يصير أكبر عامل تهديد اتخذ من الصومال قاعدته، ليتجاوز حدودها ويمتد إلى مجمل القرن الإفريقى أو ما يمكن تسميته بالشرق الإفريقى الكبير. الآن قد يكون التنظيم على موعد مع متغير جديد قد يسهم فى تدعيم قوته، ويفتح مساحات جديدة للحركة أمامه، فقد أكملت القيادة العسكرية الأمريكية فى إفريقيا «أفريكوم»، هذا الأسبوع انسحاب قواتها من الصومال، قبل أيام من الموعد الذى حدده لها الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب. مكتفية بالإعلان عن تعديل فى مهمتها تقتصر على التعاون مع «الجيش الصومالى»، وهو يبدو تصريحًا إعلاميًا خجولًا يحاول تسويق أن الولايات المتحدة ستواصل حملتها ضد «حركة الشباب» الإرهابية. لكن موازين القوى والتأثير على الأرض تجعلان الأمر بمثابة تمهيد الأجواء، للدخول فى فصل جديد من تمكين التنظيم، وهناك من يتحدث عن إشراكهم فى الحكم بصيغة مستترة. فنحن نتحدث عن تنظيم يمتلك على أقل تقدير قرابة «١٥ ألف مسلح»، فى مواجهة جيش صومالى فى طور التشكيل الذى لن يصل إلى الاحترافية التى تمكنه من فرض الأمن، ومن ثم الانخراط وحده فى محاربة هذا التنظيم الكبير قبل سنوات ليست بالقليلة.
نستكمل بقية مشاهد وإشكاليات الفروع النشطة والقوية لتنظيم «القاعدة»، فى الأسبوع المقبل بمشيئة الله.