رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

في يوم ميلاد «الأسواني»: نورك معنا يا أبي

عبد الوهاب الأسواني
عبد الوهاب الأسواني

عرفت اسم الروائي القدير عبد الوهاب الأسواني في سنوات الصبا؛ كانت قد مرت نحو سبع سنوات على عرض مسلسل "اللسان المر" الذي جعل اسمه معروفا آنذاك لدي مشاهدي الشاشة الصغيرة في كثير من قرى مصر، لكن أصداء المسلسل ظلت حاضرة بقوة في ذاكرة ناس أسوان، تتداول الحديث عنه السيدات في البيوت والتلاميذ في المدارس والمزارعون في الحقول، وكان لمؤلف المسلسل حضور مميز؛ فهو "ابن جزيرة المنصورية" يعني "ابن البلد"، وقد زاملت كثيرين من قرى غرب النيل من مركزي كوم أمبو ودارو، في بداية المرحلة الثانوية؛ كانوا يتحدثون من باب التباهي عن أديب بلدتهم، ويشبهونه بالعقاد، وكانت كتب العقاد متوافرة في جميع مكتبات أسوان ومنها الكثير في مكتبة مدرستنا، لكن أين هي كتب عبد الوهاب الأسواني؟، وبينما أبحث عن إجابة لسؤالي فوق الأرفف، سألت أمين المكتبة عن "قصة اللسان المر" فلم يجدها لكنه دلني على رواية "سلمى الأسوانية" وقال: "بس ضروري ترجعها لأنها النسخة الوحيدة عندنا".

وفي البيت كانت "سلمى" هي سلوتي؛ قرأتها سريعا، وصرت متيما بشخوصها، فمنهم من يشبهون أهل قريتي والقرى المجاورة، إنها عن ناس ليسوا خياليين أو بعيدين عني، بل ممن أعيش بينهم وأتعامل معهم. بدت لي الرواية هي الواقع القروي لنا نحن فتيان القرى؛ فكلنا يشبه "مصطفى"؛ قلوبنا موزعة بين فتاة القرية وفتاة المدينة. وكم تخيلت نفسي ذلك الفتى الذي سكن قلب فتاة الشمال "الإسكندرية تحديدًا". ليال من الخيال والسرحان مع بطل الرواية الذي سكن مخيلتي، ومع "سلمى" عانقتني محبة عبد الوهاب الأسواني، وباتت مجالسته أمنية لم أتوقع أن تتحقق ذات يوم.

أعدت الرواية للمكتبة على أن أستعيرها مرة أخرى، وظلت مسألة الاحتفاظ بنسخة منها أمرًا بعيد المنال، لكنه تحقق صدفة قبل وقت قصير من التحاقي بالجامعة؛ كان صديقي وابن قريتي عبد الباسط عبد العزيز يعمل آنذاك مشرفا بمكتبة "نادي شركة وادي كوم أمبو"، وبينما شرعت الشركة في تأجير النادي بدأت بتصفية المكتبة، فكان نصيبي بفضل "باسط" كرتونة عامرة بالكتب، ومن بينها "سلمى الأسوانية" التي رافقتني في السفر، وظلت معي مثل طيف جميل يعيدني إلى نفسي وأهلي وصحبتي في أسوان؛ فحين تقرصني حياة المدينة بغربتها القاسية أعاود قراءة "سلمى" بشغف المرة الأولى، وفي كل مرة أكتشف جوانب أخرى تكشف بدورها أبعادا جديدة في مسألة "مصطفى"؛ الشاب الواقع بين الجبر والاختيار، بين جبر"صورة العائلة" بالزواج من "ابنة عمه"، أو كسرها بالزواج من "حبيبته الغريبة"، بين المكتسب والموروث في شخصيته، بين الانتماء إلى المدينة بثقافتها المفتوحة المتحركة والمتفاعلة مع كل جديد، وثقافة القرية الساكنة التي تنفر من أي "ثقافة وافدة" حتى لو كان من يتبناها ابن أصيل من أبناء الجماعة الشعبية التي ترى أن كل جديد تغريب وخروج على التقاليد.

انتصرت "سلمى" للمجتمعات التقليدية فيما يخص مسألة الانتماء، لكنها تركت سؤال "الهوية" مفتوحًا على مسارات شتى تتمثل في الكيفية التي تحفظ للمجتمعات هويتها: هل بالرفض التام لثقافة الآخر أم بالاستسلام لها، أم بالتعاطي معها بقدر يحفظ لها حضورها وحيويتها؟

تلك المسارات وقفت عليها لاحقا؛ فعندما تمعن المجتمعات في انغلاقها على نفسها، يكون من السهل تخريب هويتها سواء بانفجارها من الداخل أو اختراقها من الخارج؛ وهو جانب مما تناولته رواية "النمل الأبيض" التي صدرت عن دار الهلال في العام 1995م، وبعدها بسنوات قليلة أنهى "الأسواني" سفرياته المتكررة وعاد ليستقر تمامًا بالقاهرة، فتحققت فرصة الجلوس إليه، ومنذ ذلك الحين صار ملاذا لي، مع كل زيارة له أو مقابلة معه أشعر كأنني أجلس في حضرة نهر فياض بالخير والمحبة والمعرفة، وباتت القاهرة لطيفة وحنونة ولائقة، وقد كانت قبل اقترابي منه مخيفة وموحشة، رغم الشوط الطويل الذي كنت قطعته في التعايش معها بدعم وتشجيع أصدقائي، لكن مع عبد الوهاب الأسواني ودعت خوفي من "القاهرة القاهرة"، فقد كان لي نعم الأب؛ أستجير به كلما "كحت" معي الحياة.

وفي مناسبة يوم ميلاده الذي يوافق اليوم 17 يناير، أقول له: نورك معنا يا أبي، في قلوبنا وعقولنا، نستعين به لمواجهة الظلام. نورك معنا يا أبي يذكرنا بجمال أرواحنا، ويُلطٍّفُ علينا قسوة الحياة. نورك يدعم إرادتنا لنتغلب على أوجاعنا في عالم مضروب بالوباء، فلك التحية والسلام، ولكل قرائك ومحبيك السلامة.