رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الصعود الخاطف والانحدار السحيق «١»



ها أنذا أعيد تركيب وجهى وألطع ابتسامة عليه تناسب الرضا الذى يغمر ماما، حتى لا أعلق فى دروس التنمية البشرية التى تحرص على تضمينها مع كورسات التخسيس والمساج واليوجا فى الجيم.. كيف تحافظين على رشاقتك؟ تساؤل يليق بالنساء الفارغات، لذا لا بد من تطعيمه بشىء من: كيف تكسبين الثقة بالنفس؟ كيف تتحكمين فى غضبك؟ كيف تطورين علاقاتك؟
ترفض أمى أن تكون مجردة مديرة أو مالكة لجيم، صالة ألعاب رياضية، هوب هوب، حلقة من الحلقات المفرغة التى تتوه فيها النساء، لا بد من التفخيم وإضافة دبلومة التغذية الخلوية، دبلومة المهارات الاتصالية، حتى تعبير التنمية البشرية، أصبح تعبير بيئة، مستهلكًا، باليًا، يشبه الشعارات السياسية التى لم يتحقق منها شىء: عيش، حرية، عدالة اجتماعية.
لكن أى من هذه الدروس لم يستطع أن يغير علاقاتى بماما، دائمًا هناك اعتراض منها على شىء، ودائمًا هناك طلب منى لشىء، أى منا لم يتغير رغم تجاوزى مرحلة المراهقة.. الخلافات المتكررة تستنزف طاقتى.. الخوف من رائحتى، أن كل المحيطين بى يشمون الرائحة الجبنية لإفرازاتى، الإصرار على أن نشاهد فيلمًا للسهرة معًا، أريد أن أهرب لشاشتى الصغيرة، الفرق الموسيقية الجديدة، العالم يتجه شرقًا لليابان لكوريا، الشجار لا ينتهى بينى وبين ماما حتى أنى أسميها «المرأة التى تقيم فى الغرفة المجاورة»، أحاول أن أبتعد بعالمى عنها، بالصراخ، بالمراوغة، لكن أعود وأحتاج إليها، علاقتنا اليومية بالقطاعى، تتهمنى بالسطحية، عدم الصبر، أننى لا أتعمق فى شىء. هذه حقيقة، لكنى لا أراها صفة سلبية لمن يريد العمق، من يريد الحكمة فى زمن اللاعقل.
أنا أقرأ كثيرًا وأوظف كل ما أقرأ لصالحى.. أجمع كلمات، كلمة من هنا، عبارة من هناك، حكم موزونة، بيت لشاعر، مقولة لروائى، رأى لسياسى، أستعيرها، أنتحلها، أضيف لها، العالم فسيفسات جزر متصلة معزولة.. وأردها للجمهور، للرواد المتحلقين حول قناديل الشهوة والإغواء.
«ظلى مثل المهرج خلف الملكة
عندما تنهض الملكة من فوق كرسى العرش
فينتصب المهرج مرتعبًا على الحائط
ويقرع السقف برأسه البلهاء».
عرضوا علىّ أن أعمل مذيعة رفضت، الكاميرا لم تحبنى وأنا أخشى مواجهتها.. درست الإعلام فى الجامعة الأمريكية، لا توجد لدىّ موهبة محددة، أدير موقعًا إلكترونيًا، وأعمل منتجًا فنيًا لقناة تليفزيونية شهيرة، دخلت الإعلام لأنها مهنة ودراسة سهلة، أعرف أننى لم أحقق طموح أمى عندما أدخلتنى «الباك» كى أكمل تعليمى فى فرنسا لكنى لم أكن أريد السفر فى هذه السن، لا أعرف ماذا أفعل وحدى، أن أقيم فى نزل للشباب أو مع عائلة فرنسية، لى صديقات يدرسن الاقتصاد فى سويسرا أو السياسة أو القانون فى القسم الفرنسى فى جامعة القاهرة، لكنى أريد شيئًا سهلًا، لا أريد تعقيدات، حتى العمل بالإعلام لا يحتاج إلى دراسة. لكنها شهادة أرضى بها ماما، أو عمل الحد الأدنى مما هو مفروض.. ما فائدة أى شىء إذا كانت الحياة تعود لتبدأ من جديد من نقطة الصفر.. إذا كنا عرضة دائمًا للخسارة ولا شىء مجانى؟
اقترحت ماما كلية ألسن ولغات، كى أستفيد من دراستى الفرنسية، لكننى رفضت، الترجمة تحتاج لصبر، لإعادة بناء التراكيب وضبط اللغة، الترجمة تحتاج لصبر، وأنا لدى غضب.. يملؤنى غضب هائل ضد نفسى، ضد ماما، بابا، جدى، ضد هانى.. ضد أمه.. الغضب من استخدام الآخرين لك، الغضب من استخدامك للآخرين، ما الذى يقضى على الغضب، يفرغه من طاقته، يحوله لشىء أبله بلا معنى.. لا شىء يعادى الغضب كالملل والتكرار، الغضب دائمًا طازج، فى كل مرة تفور الدماء، تتسع الشرايين، وتعمل مضخات القلب بأقصى قوتها، والهرمونات تدفع بك لحافة الهاوية، ويتحول العالم لحفرة، صراخ من السقوط الخيالى، الذى لم يحدث بعد، أو تحدث فقط فى خيالك لعبة المحاكاة.. أحبها فى أفلام الرعب، لكنى لا أحب لعبة القطارات، حيث تتحرك القضبان بسرعة تفوق السرعة العادية آلاف المرات.
تسبب قطار «أنديانا جونز» أو قطار الموت فى «ديزنى باريس» فى خصام دام يومين بينى وبين ماما. شاركتنى اللعبة، لكنى كنت وحدى تمامًا فى الصعود الخاطف والانحدار السحيق. أربع دقائق قضيتها فى الصراع وفى عدم الاتزان المطلق، ما إن استقر القطار توقف، حتى أفرغت ما فى معدتى على بوابة الخروج وعلى الممر، كنت أهرب وأمى تجرى خلفى، تحاول أن تلمسنى أن توقفنى وأنا أنفر منها، أهرب لا أعرف أين أسير، فقط كنت أتخبط ولكن على أرض.. مجرد الجرى على أرض صلبة كان يريحنى، استمررت فى الصراخ.. صراخ لم يقطعه البكاء أو تهدئه الدموع، احتجت لساعة حتى أستطيع الوقوف واستعادة توازنى. كانت ماما تجرى خلفى طوال الوقت تحافظ على مسافة بينى وبينها، وعندما نظرت لها كان وجهها محتقنًا من الدموع، وكان صوتى محتقنًا من الصراخ.