رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قصة الراعى الصالح الذى خرج إلينا من الجبال


بعدد جريدة «مصر» الصادر صباح الثلاثاء ١٠ مايو ١٩٦٠ «فى السنة الأولى لجلوس البابا كيرلس السادس على كرسى القديس مرقس، كرسى أسقفية الإسكندرية»، سجل لنا، بأسلوب بليغ وصادق، الأستاذ فؤاد باسيلى «فيما بعد القمص بولس باسيلى أحد كهنة كنائس شبرا والبرلمانى المشهور الذى كانت له مواقف وطنية رائعة فى مجلس الشعب المصرى فى فترة الرئيس محمد أنور السادات»- كلمات رائعة عن «البابا كيرلس السادس مبعوث العناية الإلهية، إنها قصة الراعى الذى خرج إلينا من الجبال»، إنه الرجل الذى أجمع على حبه المسلمون والأقباط، إنه القديس الذى صنع العجائب والمعجزات، إنه السائح السابح فى الصوامع والجبال، إنه البطريرك الذى أعاد ثقة جميع الطوائف المسيحية بالرئاسة الدينية، إنه صاحب المواكب الشعبية التى لم يشهدها بطريرك آخر. فكتب يقول:
شخصية البابا كيرلس رغم بساطتها شخصية عميقة دقيقة، يُظن لأول وهلة أنها شخصية سهلة التحليل، فإذا بها كالبحر الخضم لا يسبر لها غور. إنها كما يقول المتنبى: «كالبدر من حيث التفت رايته.. يهدى إلى عينيك نورًا ثاقبًا».
إنه القمص مينا الراهب المتوحد، السائح السابح فى ذلك الجبل المغمور، فى مصر القديمة، فى تلك «الطاحونة» البعيدة المهجورة التى حوّلها إلى معبد ينادى فيه باسم الرب، بل تلك المغارة التى استحالت بقوة إيمانه وصبره وجهاده إلى جنات يافعات وحدائق غناء.
هو الراهب الذى ذهب ليعمر دير الأنبا صموئيل بمنطقة القلمون- مغاغة- ويشيد صوامعه، وقد جمع رهبانه من الشباب الجامعى التقى المثقف.
هو الراهب المُحب للعلم والعلماء اصطفاه الراهب العالم القمص عبدالمسيح المسعودى فكانا يتدارسان الكتب القديمة وسير الآباء.
هو الراهب القمص مينا البراموسى الذى قضى نحو ثلث قرن بعيدًا عن الناس يصلى ويصوم ويتعبد، لقد كرّس شبابه كله للرب، وطهر جسده وأفكاره من عثرات العالم، وإغراءات الجسد وشهوات الخطيئة.
هو الراهب الذى قدّس شبابه وكرّس حياته، وحمل النير منذ صباه، منذ طلب الرهبنة فى دير البراموس سنة ١٩٢٧، ولم يزد عمره على الخامسة والعشرين ربيعًا.
هو القمص مينا المتوحد حبيب الشباب وصديق الطلبة، الذى طالما سكب بلسمًا على قلوبهم الغضة الطرية، والذى طالما حل لهم المشاكل الشبابية، وجعل من ديره مسكنًا للغرباء، يحميهم من شر المعاشرات الرديئة التى تفسد الأخلاق الجيدة، حتى استطاع أن ينشئ جيشًا جرارًا من الشباب الطاهر، تخرج من بين يديه، وعاش ردحًا من الزمن تحت إرشاداته وتوجيهاته، فكان منهم كهنة مثقفون ورهبان أتقياء روحانيون. هو الراعى المتواضع الذى بعثته إلينا العناية الإلهية بعد أن أسلمنا لها قيادتنا، وأوكلنا إليها مقاليد أمورنا، واستشرنا القرعة الهيكلية فكان البابا كيرلس السادس مبعوث العناية الإلهية، حتى إن فضائله وأفضاله ذاعت فشاعت فى كل مكان فى مصر وخارج مصر، حتى إننا رأينا الكثيرين من عمداء كليات اللاهوت رؤساء الدين فى الخارج يشدون الرحال إليه فى مغارته ليزوروه، ويتزودوا ببركاته، وهكذا عادت لنا كرامتنا، ورد إلينا اعتبارنا بعد أن تمرغت رءوسنا فى الوحل وانسحقت أنوفنا فى الرغام.
هو القديس الذى أعاد إلينا عصر المعجزات، وصنع أمامنا عشرات العجائب والآيات، فتمم القول المأثور: «وهذه الآيات تتبع المؤمنين». وهكذا رأينا الرجل الذى أجمع على حبه وتقديسه المسلمون والأقباط، فكنت ترى المواكب التى مشى إليها فى طريقه إلى الكنائس، مواكب يحف بها الجلال والروعة، ولسنا ننسى عشرات الذبائح التى نحرها إخواننا المواطنون عند قدميه تقديرًا منهم لرجل الله واستمدادًا لبركات السماء فى تلك المواكب التى أشهد أنه لم يشهدها بطريرك عبر القرون والأجيال.
إنه البطريرك الذى تجمعت حوله طوائف المسيحيين «كاثوليك وإنجيليون»، تجمعت كلها وتوحدت جميعها تحت راية ذلك الرائد الروحى العظيم، لقد أعادت تلك الطوائف المختلفة ثقتها فى رئاستها الدينية وشعرت بحق بأن كنيستنا القبطية هى الكنيسة الأم.
لقد رأت فيه روح «إيليا» المصلى، و«موسى» الصائم، و«نحميا» الغيور، و«يوسف» الطهور، و«سليمان» الحكيم، حتى إن كنيسة البطريركية أصبحت كخلية النحل تموج بالمصلين والمصليات والعابدين والعابدات، والمتناولين والمتناولات، فبعد أن كانت مقفرة خالية إلا من بعض العجزة والعجائز يُعدون على الأصابع، أصبح عددهم بعد ذلك من الكثرة بحيث يجلون عن الحصر والإحصاء.
إنه الأب الروحانى والقديس الذى استطاع بحكم صلته بالله أن يعيد الصلات قوية كما كانت منذ نحو ستة عشر قرنًا من الزمان بيننا وبين إخواننا الإثيوبيين، وكيف أنه استطاع أن يوحّد صفوف الكنيسة المصرية وابنتها الكنيسة الإثيوبية، فأفسد على المتصيدين فى الماء العكر محاولاتهم ومناوراتهم، حتى إن جلالة الإمبراطور الإثيوبى العظيم «هيلاسلاسى» أصرّ على أن يحضر بنفسه إلى الكاتدرائية المرقسية الكبرى بالأزبكية، طالبًا بركاته الرسولية. وهكذا نجح البابا فى حل المشكلة التى كانت من أعقد المشاكل.
إن أبرز ما فعله البابا كيرلس السادس هو ترسيخ الوحدة الشاملة الكاملة، الجامعة المانعة، وحدة الشعب التى عمل لها، ونجح فى إبرازها، حتى إن ملايين الأقباط، شبابهم وشيبهم، رجالهم ونساءهم، هتفوا باسم البابا كيرلس، وأحبوه حبًا أبويًا فى غير ما تصنع ولا رياء. إنهم التفوا حول كرسيه العظيم، وجلسوا فى حضرته والفرحة تشيع فى قلوبهم، وتسيطر الوحدة على كيانهم، بعد أن كانوا من قبل شيعًا وأحزابًا.
إن أعظم ما استطاع البابا كيرلس أن ينجح فيه هو إعادة ثقة الشعب فى الكهنوت، ذلك الكهنوت المقدس الذى انعدمت ثقة الشعب فيه فترة من الزمان بما لمسوه وما سمعوه. لقد أعاد البابا الثقة إلى قلب الشعب نحو الرعاة الأجلاء، حتى ساد الاحترام بين الجميع وعادت الثقة إلى ما ينبغى أن تكون بين الأبناء والآباء.
ثم تلك اللفتات القوية والزيارات الرعوية والبركات الرسولية التى غمر بها شعب الإسكندرية، حتى خفنا- كدت أقول غِرنا- أن تأخذه الإسكندرية منا. فإذا به يتمتع ببُعد النظر، وثاقب الفكر، ومن الإسكندرية عرج على مريوط وبنى فيها ديرًا لفارس الصحراء مارمينا العظيم. لقد أثبت بذلك أنه مثل الراعى الواعى الذى يرغب فى بعث الوعى الكنسى الصحيح، وبعث الآثار القبطية القديمة.
لقد هيأ البابا كيرلس أمام العاملين طريق العمل، وأعد للمجاهدين الروحيين سبيل الجهاد الحقيقى، وفرش الطريق أمام المصلحين بالنوايا الصالحة، والعزائم الطيبة، ورفع أمام الشعب راية الجهاد الأكبر، جهاد المؤمنين فى سبيل خلاص نفسه، وإصلاح حياته وسيرته. لقد علّم الشعب كيف يصلى بالروح والحق، وكيف يصوم بصدق ونسك، وضرب المثل، أجمل المثل، فى الحياة الفضلى كيف تكون، والروح فى سبيل الرب كيف تهون.