رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

شخصية ترامب عند نجيب محفوظ




يذكرنى ترامب بالبلطجة التى تصرف بها وبإصراره على أنه الرئيس بشخصية من رواية «بداية ونهاية» لنجيب محفوظ.. شخصية حسن الفاشل دراسيًا، الوقح، الذى لا موهبة لديه سوى الوقاحة، وبصوته القبيح يلتحق بتخت غنائى، لأن ذلك العمل كما يقول نجيب محفوظ: «هو العمل الوحيد الذى يحبه، لا لميل فنى مركب فى طبعه، ولكن لأنه يسير ولذيذ ويتسم جوه عادة بأريج الخمر والمخدرات والنساء»! وعندما يختبره صاحب التخت سائلًا إياه: «هل تحفظ فى البعد يا ما كنت أنوح؟» ينطلق حسن ليغنى دون تردد، وعندما يغنى فى الأعراس فإنه يهدد بأن يهدم العرس على رأس مَنْ فيه إذا أبدى أحدهم استياءه من قبح صوته، بل وقد يضرب المعازيم إذا لزم الأمر لكى يواصل الغناء.
حين اعترض الناخبون الأمريكيون على السيد ترامب رئيسًا، سارع المذكور بالتهديد بهدم الكونجرس على رأس من بداخله لكى يقدم وصلة رئاسية أخرى رغم أنف الجميع.
يقدم محفوظ فى روايته البديعة الأساس الفكرى والنفسى لشخصية البلطجى أينما كان، سواء أكان فقيرًا من درب نصر الله بشبرا مثل حسن، أو كبيرًا من نيويورك مثل ترامب.. ويعبر حسن عن منطق البلطجة بقوله: «إنى أعيش فى هذه الدنيا على افتراض أنه لا يوجد بها لا أخلاق ولا رب ولا بوليس»، وهذه هى بالضبط فلسفة ترامب الذى تصرف ويتصرف على أساس أنه لا توجد فى العالم لا أخلاق ولا رب ولا قانون ولا أى شىء سوى مصلحته.. هناك صفة أخرى جعلها محفوظ علامة فى تكوين البلطجى حين وصف حسن قائلًا: «إنه لم يتأثر بأى نوع من التربية والتهذيب»، التوصيف الذى ينطبق بدقة متناهية على شخصية ترامب وتصريحاته وهمجيته.. لكن هناك بطبيعة الحال فرقًا ضخمًا بين بلطجى غلبان من أزقة القاهرة، أقصى أحلامه اللقمة الطرية والسهرة الحلوة، وبلطجى كبير من نيويورك ساعدته الظروف على أن يصبح رئيسًا، فأصبحت صفاته الشخصية وضعًا تاريخيًا.. يقول حسن لأخيه فى الرواية، التى صدرت عام ١٩٤٩: «أرحنا من الفلسفة التى لا تشبع من جوع»، بينما يقول لسان حال ترامب: «أرحنا من الديمقراطية التى لا تشبع من جوع»!
وقد أثار ترامب بتحريك أنصاره للهجوم على الكونجرس استياء الكثيرين، انطلاقًا من أن ما فعله يعد عدوانًا على النظام الديمقراطى الأمريكى الحر، وانطلق آخرون من أن مؤسسات الدولة فى النظام الأمريكى الديمقراطى استطاعت فى نهاية المطاف حماية الديمقراطية وأرغمت ترامب على وقف البلطجة.. فى الحالتين هناك تأكيد «ديمقراطية» النظام بالمفهوم الأمريكى.. والحق أن ما قام به ترامب خلال فترة رئاسته وما بعد ذلك لم يكن مخالفًا للديمقراطية الأمريكية، بل مجرد إعلان عن حقيقتها، وعن أنها طريقة محددة للحفاظ على الدولة لكى تواصل نهبها ثروات الشعوب الأخرى.. وبداهة فإنه عندما يهدد ترامب تماسك الدولة الاستعمارية، فلا بد من التصدى له من داخل السلطة نفسها لضمان استمرارية الهيمنة واعتصار الأرباح من دماء الشعوب، ولذلك فإن ما قامت به المؤسسات الأمريكية- وقد رأى البعض أنها أكدت الديمقراطية- لم يكن سوى خلاف الأقارب والأصدقاء داخل السلطة والعائلة نفسها، وفى إطار نفس التوجه، ومن أجل نفس الأهداف، وإلا أين كانت تلك المؤسسات التى تمثل الديمقراطية حين شنت أمريكا حروبها على شعوب العالم الثالث، بدءًا من حربها الأولى عام ١٩١٦ على الدومينيكان لقمع الانتفاضة الشعبية، مرورًا بإلقائها القنابل الذرية على اليابان فى ١٩٤٥، وحرب فيتنام ١٩٦٤، ثم عشر حروب أخرى حتى العدوان على ليبيا ١٩٨٦، وأخيرًا غزو وتدمير العراق؟ أين كان صوت وتأثير تلك المؤسسات وتلك الديمقراطية؟ أم أنه لم يخطر ببال أحد قط أن الحروب الأمريكية على العالم الثالث تنفى أى وجود للديمقراطية؟ ولم يخطر ببال أحد أن أمريكا الديمقراطية كانت بتلك الحروب تمنع شعوبًا بأكملها، ليس فقط من الكلام، بل وتمنعها من الحياة! ولا يمكن لنظام يقمع شعوبًا بأكملها ويمنعها من الكلام والحياة والتطور أن يكون ديمقراطيًا من داخله، إنه فقط نظام البلطجة التى كان ترامب تعبيرًا صريحًا عنها من دون عبارات منمقة ومرتبة وكاذبة.. لقد اعتمد ترامب على جوهر الديمقراطية الأمريكية القائل إن النظام الأمريكى يحيا على افتراض أنه لا توجد لا أخلاق ولا رب ولا بوليس.. ولا ديمقراطية، هناك فقط الأغانى المكررة عن حقوق الإنسان، بصوت قبيح، وبالقوة، وسوف تسمعها شئت أم أبيت، أو يهدمون العرس على رأسك.