رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عام جديد بين الشعارات على الورق والمليارات المهدرة


أليست حقيقة مؤسفة أن العالم كله يستهلك مصطلح «حقوق الإنسان» أكثر مما يستهلك «القهوة» و«جراحات التجميل» و«أخبار سفك الدماء» و«فضائح المشاهير» و«الفتاوى الدينية الذكورية المعادية للتقدم» و«الحفلات الصاخبة» التى تفتعل الفرح والبهجة؟
ينتهى عام ويبدأ عام جديد، مع التهنئة المعتادة، والأمنيات المتكررة، عن المزيد من تطبيق حقوق الإنسان على الأرض، وليس على الورق وفى الندوات، وفى المؤتمرات التى تعتمد المليارات من الدولارات، لتحسين أحوال البشر، نساءً ورجالًا وأطفالًا. ويقول الواقع إنه كلما زادت هذه المليارات قلت العدالة والحرية والكرامة، للغالبية من سكان الأرض.
لست مندهشة، فالحضارة العالمية التى تحكم كوكب الأرض فى تناقض جوهرى، مع «حقوق الإنسان». و«الإنسان» المقصود هنا، هو ما يمثل الغالبية العظمى من النساء، والرجال والأطفال والمهمشين والمهاجرين والأقليات والملونين وضحايا الإرهاب الدينى، وضحايا الفقر والأحوال البيئية غير الإنسانية وعدم العدالة فى توزيع الموارد والحقوق والامتيازات وضحايا الفنون الرديئة وضحايا الفساد وضحايا التجارة بالأديان و«بيزنس» نقل الأعضاء وضحايا صحوة النعرات العنصرية والعرقية والذكورية، وتراجع سقف حريات التعبير والإبداع تحت أسماء براقة مضللة.
غالبية عظمى بالملايين، لا يملكون من أمرهم شيئًا، إلا أجسادهم المنهوكة فى مهانة البطالة، أو تحت عجلات الإنتاج الرأسمالى الشرس، وعقولهم المغسولة بإعلام لا يعبد إلا رأس المال، وتكدس الأرباح وعرى النساء وسلطة الرجال، وأن تستر وراء التعاليم الدينية والمواعظ الأخلاقية.
إن ميثاق «حقوق الإنسان»، الذى تم إقراره عالميًا، موضوع لحماية الضعيف. أما الإنسان القوى فلا يحتاج إلى وثيقة تسترد حقوقه الضائعة أو تحمى حقه فى الحاضر والمستقبل.
فالحضارة العالمية السائدة مُسخّرة لحماية وتدعيم ملكيته وسطوته وعنصريته وذكوريته ورفاهية حياته وأمانه واستمتاعات أطفاله وأحفاده على مر العصور. ولكن هذه الحضارة العالمية السائدة، تصدع أدمغتنا كل يوم ليلًا ونهارًا، بالكلام عن حقوق الإنسان المهدرة.
إذن لدينا كالمعتاد منذ قديم الأزل، هذه الآلية المتناقضة، «الجوهر غائب» لكن «الشكل موجود». فالاهتمام بالشكل وتحسين الصورة وطلاء المنزل من الخارج، وإنفاق الموارد على الزخرفة الخارجية المظهرية، ما هى إلا «تأكيد»، على «انعدام» الجوهر.
علّمنا التاريخ أن اللصوص والنصابين والمحتالين والمرتزقة والقوادين والفاسدين والجواسيس والكاذبين وتجار الأديان وسماسرة الأوطان ومصاصى الدماء وأنصار الفاشية، هم أبرع الناس فى الكلام عن الأمانة والشرف والصدق والنزاهة والعفة والفضيلة والعدالة والحرية وكرامة وحقوق الإنسان.
عندما عاد جورج برنارد شو «٢٦ يوليو ١٨٥٦- ٢ نوفمبر ١٩٥٠»، من زيارته لأمريكا، سُئل عن رأيه فى تمثال الحرية، فأجاب بسخريته المعتادة: «الناس عادة ما يصنعون التماثيل للموتى».
من بستان قصائدى
فى بداية العام.. أنا فى أشد الاحتياج
إلى إجازة طويلة.. من دوشة الأطفال والميكروفونات
من صخب واختراق الألعاب النارية.. من ذكورية الرجال وطاعة النساء
من منظر الشوارع وشكل المذيعات.. من تفاهة البرامج الثقافية
من شكل الحجاب والنقاب والعباءات.. من انتهاء صلاحية البرامج الدينية
من صرخات الاستغاثات.. فى البيوت المغلقة والمستشفيات
أنا فى أشد الاحتياج.. إلى إجازة طويلة
من تدافع الذكريات الساخنة.. من فناجين القهوة الباردة
من أفكارى وخواطرى ومشاعرى.. من سهرات العشاء الشاردة
أنا فى أشد الاحتياج.. إلى إجازة طويلة
من رنات التليفونات.. ومن رنات الحنين
من دقات الباب.. ودقات الساعات
أنا فى أشد الاحتياج.. إلى إجازة طويلة
من تأنيب الضمير.. وصوت العتاب المرير
أنا فى أشد الاحتياج.. إلى إجازة طويلة
من صوت التفجيرات.. وأخبار سفك الدماء
من طيور لا تغرد.. ولا تطير فى السماء
من كذب الألسنة وزيف الشفاه.. من تشابه الناس وعبث الانتظار
من العادة وأوقات الضجر.. من أشباح الليل وعفاريت النهار
أنا فى أشد الاحتياج.. إلى الاختفاء عن كل الأشياء
من أقراص الأسبرين والحبوب المنومة.. من وجبات الغذاء والفطور والعشاء
من دفع فواتير المشاعر اليائسة.. وفواتير الماء والغاز والكهرباء
أنا فى أشد الاحتياج.. إلى مدينة من الفراغ والخواء
أسافر إليها وحدى ليلًا.. ليس معى
إلا همسات البحر وقصائد قلبى.. صوت أمى الحبيبة وصور طفولتى
ومعطف أسود مصنوع من الفراء.