رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أسرار «لهث» أردوغان وراء إسرائيل لإنقاذه من أزماته

جريدة الدستور


بعد سنوات من الانتقادات اللاذعة والتصريحات النارية من جانب تركيا، ظهرت عدة مؤشرات عن رغبتها فى التقرب من إسرائيل، خلال الأسابيع الأخيرة، بشكل لفت انتباه كل المهتمين بالسياسة الدولية.
وتقف وراء هذه التحركات التركية فى اتجاه إسرائيل عدة دوافع، لا يمكن فصلها بأى صورة عن السياق السياسى فى الداخل التركى، والأزمات التى تواجهها وأدت إلى عزلتها الدولية، فى الوقت الذى لا تزال فيه تل أبيب تقف ساكنة تجاه هذه التحركات، ولم يظهر بعد الموقف الذى ستتخذه فى النهاية.
«الدستور» تستعرض فى السطور التالية طبيعة العلاقات بين تركيا وإسرائيل، بداية من العداء والتصريحات الهجومية أوائل القرن الحالى، وصولًا إلى التحركات الأخيرة فى اتجاه التقارب، والدوافع الرئيسية التى تقف وراءها، بجانب ردود الأفعال المتوقعة من قِبل تل أبيب.


أعلن رغبته فى التقارب علنًا.. رئيس مخابراته زار تل أبيب.. وعلييف ساعد فى عودة العلاقات

فى مايو ٢٠١٠، نشب خلاف حاد بين تركيا وإسرائيل أدى إلى قطع العلاقات بينهما، بعد حادث سفينة «مرمرة»، التى تعرضت إلى هجوم إسرائيلى أثناء إبحارها لتقديم مساعدات إنسانية لقطاع غزة، ما أدى إلى مقتل ١٠ مواطنين أتراك كانوا على متنها.
وبعد ١٠ سنوات من حدوث تلك الواقعة، قدم بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلى، اعتذارًا عما حدث، فى محادثة هاتفية علنية مع الرئيس التركى رجب طيب أردوغان، وذلك بعد أن وافقت تل أبيب على دفع تعويضات بقيمة ٢٠ مليون دولار عن الضرر الذى وقع للمدنيين على متن السفينة.
وإلى جانب تلك الحادثة الشهيرة، لم تكن منظومة العلاقات بين إسرائيل وتركيا فى أفضل حالاتها خلال السنوات الأخيرة، وسط خلافات عميقة بينهما بشأن مجموعة من القضايا، على رأسها الصراع الإسرائيلى- الفلسطينى، ودعم تركيا جماعات «الإسلام السياسى» فى المنطقة.
فى المقابل، وثقت إسرائيل علاقاتها بشكل قوى مع مجموعة دول شرق البحر الأبيض المتوسط، التى تشمل: اليونان، وقبرص، ومصر، إلى جانب الإمارات، وكلها خصوم بارزون للسياسة الخارجية التركية فى الوقت الحالى. ومنذ مايو ٢٠١٨، لا يوجد سفراء من الجانبين فى تل أبيب وأنقرة، مع الاكتفاء بـ«قائمين بالأعمال»، بعد أن طلبت تركيا من السفير الإسرائيلى المغادرة، دون أن تخفّض مستوى العلاقات بصورة رسمية، ردًا على الهجوم الإسرائيلى على قطاع غزة، ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس.
وخلال السنوات الأخيرة، لم يتوقف «أردوغان» عن انتقاد إسرائيل والهجوم على «نتنياهو»، رغم حجم التبادل التجارى بين الجانبين، الذى يصل إلى ٦ مليارات دولار سنويًا.
لكن فيما يبدو أنه تغيير لتلك السياسة، خرج «أردوغان» فى تصريحات للصحفيين، الأسبوع الماضى، قال فيها إنه يريد تحسين العلاقات مع إسرائيل، وعلى الرغم من إشارته إلى «برودة» علاقاته مع «نتنياهو»، فإنه شدد فى الوقت نفسه على اهتمامه بتواصل العلاقات الاستخباراتية بين الدولتين كالمعتاد.
وجاءت تصريحات «أردوغان» بعد فترة وجيزة من الكشف عن محادثات سرية بين رئيس جهاز «الموساد» الإسرائيلى، يوسى كوهين، ورئيس الاستخبارات التركية، هاكان فيدان، الذى زار إسرائيل فى الشهر الماضى، وفقًا لتقارير إعلامية دولية متعددة.
وكشفت تقارير إعلامية أخرى عن عزم «أردوغان» تعيين أفق أولوتاش، رئيس دائرة البحوث فى وزارة الخارجية التركية، فى منصب السفير التركى القادم فى إسرائيل، علمًا بأنه درس فى الجامعة العبرية، وسبق أن تولى رئاسة معهد الأبحاث للشئون الاستراتيجية «سيتا» التركى، ويعد مقربًا من زعيم «العدالة والتنمية»، لتصبح المرة الأولى التى ترسل فيها أنقرة سفيرًا إلى إسرائيل بدوافع سياسية.
وتزامن هذا كله مع مقال نشره مركز «موشيه دايان» للأبحاث الإسرائيلى، كتبه الأدميرال التركى المتقاعد، سيهات يايسى، الذى يوصف بأنه مهندس الاتفاق البحرى الذى وُقّع العام الماضى بين تركيا وليبيا، ودعا فيه تل أبيب وأنقرة إلى السعى لترسيم الحدود البحرية بينهما.
ورأى «يايسى» فى المقال أن اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين إسرائيل وقبرص، الموقع فى ديسمبر ٢٠١٠، يظلم عمليًا إسرائيل، وأنه فى حال التوصل إلى اتفاق بحرى إسرائيلى- تركى، ستضاف إلى أراضى إسرائيل ١٦ ألف كم مربع، شاملة المنطقة التى تتضمن حقل الغاز القبرصى «أفروديت»، الذى يُعتبر حقلًا إسرائيليًا- قبرصيًا مشتركًا، لكن الجزء الأكبر منه يقع فى الجانب القبرصى، ولم تتفقا بعد على الحصة الدقيقة لكل منهما.
فى السياق ذاته، أفاد مقال للكاتب الإسرائيلى، عوديد جرانون، بأن «عراب» التقارب بين إسرائيل وتركيا هو الرئيس الأذربيجانى، إلهام علييف، الذى يتحدث علانية عن أن تركيا وإسرائيل ساعدتا بلاده بالطائرات المسيرة والسلاح والعتاد العسكرى، لتحقيق النصر على أرمينيا، فى حربهما الأخيرة على إقليم «ناغورنى قره باغ».

التدهور الاقتصادى وتقديم «عربون محبة» لـ«بايدن» وراء الهرولة الأخيرة

لماذا اتجه «أردوغان» إلى التقارب مع إسرائيل؟.. سؤال اهتم به العديد من الدوائر والباحثين فى تل أبيب، من بينهم عوديد جرانوت، الكاتب فى صحيفة «هآرتس» العبرية.
وأرجع «جرانوت» ذلك إلى التدهور المتواصل فى الاقتصاد التركى، وتراجع العملة المحلية «الليرة» بشكل ملحوظ، فى الوقت الذى تزداد فيه قوة المعارضين لنظام «أردوغان»، خاصة حزب «الشعب الجمهورى»، الذى أصبح أكثر صخبًا وإثارة لقلق الرئيس التركى.
وسياسيًا، تعانى تركيا من «عزلة» فى محيطها الإقليمى وعلى المستوى الدولى، فى ظل حرصها على فتح العديد من الجبهات فى آن واحد، بداية من منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، فى مواجهة اليونان وقبرص فيما يتعلق بالحدود البحرية، مرورًا بليبيا ومحاولاتها المستمرة لدعم حكومة «الوفاق» فى طرابلس، بجانب دعم أذربيجان ضد أرمينيا فى الخلاف على إقليم «ناغورنى قره باغ».
وأوضح الكاتب الإسرائيلى أن ارتفاع التوتر فى شرق «المتوسط» زاد من احتمالية فرض عقوبات على تركيا من جانب الاتحاد الأوروبى، فيما فاقم تدخلها العسكرى فى ليبيا خلافاتها مع مصر والسعودية والإمارات.
وجَر قرار شراء منظومة الدفاع الجوى المتطور من طراز «S-400» من روسيا، تركيا إلى مواجهة مع «الكونجرس» الأمريكى، الذى يطالب بتشديد العقوبات التى سبق أن فرضت عليها من جانب واشنطن، إلى جانب التأييد الأمريكى للأكراد وحقوقهم ضد نظام «أردوغان».
وعلى الرغم من نقاط الخلاف هذه، ظلت العلاقات الأمريكية التركية هادئة، فى فترة الرئيس الأمريكى المنتهية ولايته دونالد ترامب، وهو ما يتوقع تغييره تمامًا مع إدارة الرئيس الجديد، جو بايدن، الذى تظهر أنقرة تخوفًا من السياسة الأمريكية الجديدة فى ظل حكمه.
لذلك ربط مراقبون بين التحركات التركية فى اتجاه التقارب مع إسرائيل والتخوف التركى من «بايدن»، معتبرين أن هذه التحركات هدفها إرسال رسالة إلى «بايدن» مفادها: مستعدون لإعادة العلاقات مع إسرائيل إلى سابق عهدها، حتى ولو بشكل مؤقت، فى مقابل تجاهل توصية مستشارى «بايدن»، ومنهم وزير الدفاع السابق، روبرت جيتس، بمضاعفة العقوبات الأمريكية على تركيا، لأنها تعمل ضد مصالح واشنطن وحلف شمال الأطلسى «ناتو».
هل تثق إسرائيل فى نوايا الأتراك إذن؟
فى إسرائيل، لا يصدقون «أردوغان» ويؤمنون بضرورة الشك فى نواياه، ويتساءلون: لماذا استيقظ فجأة وهو يشعر بالندم على تدهور علاقاته مع تل أبيب؟ فهو لم يفعلها حتى بعد أن تلقى اعتذارًا وتعويضًا على حادثة «مرمرة». ويعتبر الإسرائيليون تجربتهم مع «أردوغان» سلبية، وينتقدون بصفة دائمة «مواقفه المتطرفة وتصريحاته شديدة اللهجة، وتحركاته الأخيرة فى الداخل الفلسطينى»، وفق ما قاله «جرانوت». وحتى الآن، لم تتحدث إسرائيل عن إرسال سفير إلى أنقرة، ولا عن برنامج للتعاون العسكرى أو غيره بين الحكومتين، والتبرير هو الوضع السياسى الحالى فى إسرائيل، سواء من حيث التحضيرات للانتخابات العامة، أو مواجهة جائحة «كورونا».
كما أن انضمام إسرائيل لـ«حلف شرق المتوسط»، واتفافات التطبيع التى وقعتها مع الإمارات والبحرين، سيجعلها لا تتسرع فى التقارب مع تركيا، حتى لا تهدد تلك الاتفاقات ومنظومة العلاقات بينها و«المحور المعادى لتركيا» فى المنطقة. لذلك من المتوقع بصورة كبيرة عدم تسرع الإسرائيليين فى قبول التقارب مع أنقرة، لكن فى الوقت نفسه، من المستبعد أن تغلق أبوابها أمامها بصورة كاملة، وستفضل سياسة «مواربة الباب»، وذلك من خلال استمرار العلاقات الاقتصادية والاستخباراتية لحين توافر مناخ ملائم للتقدم فى العلاقات السياسية، مع محاولة الاستفادة من الهرولة التركية فى اتجاهها لتحقيق العديد من المكاسب، بينها طلب غلق مكاتب حركة «حماس» فى تركيا.