رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نحن عباد الله الواحد لا عبيد التراث


تبًا لهؤلاء الذين يعبدون التراث ثم يأتى الواحد منهم ويقول لك: إن التراث يحمل الفكرة والفكرة المضادة، فليس سيئًا كله.. نعم أيها الناصح، ولكن قل لى: أين أنت من المدرستين؟ هل تؤمن بجواز أن نترحم على أموات المسيحيين واليهود؟! بل قل لى: هل تؤمن بجواز الترحم على الكفار والمشركين والملحدين؟! وماذا قال التراث فى هذا الشأن؟ وهل تجيز أن نلقى السلام على غير المسلمين؟ ثم أين أنتم يا كل علماء دين التراث الذى تسيّد حاليًا، ماذا تقولون فى الأسئلة التى طرحتها على أخينا العالم الناصح؟ وماذا تقولون للجمهور على منابر المساجد؟
ومرحى بك أيها الشيخ المستنير الذى يشنف آذاننا بالحديث عن حكايات بدايات القرن العشرين، حيث كان «عم بطرس» صديقًا لعم «الشيخ محمد»، وكانا لا يفترقان ليلًا أو نهارًا، لدرجة أن الراوى كان يعتقد أن عم بطرس هو عمه حقيقة، ثم تقول إن عم بطرس كان عمدة للجزء المسيحى من القرية، وعم محمد كان العمدة المسلم للجزء المسلم، ثم تعتبر هذا التقسيم الطائفى هو قمة السماحة! عمدتان لقرية واحدة على حسب التقسيم العقائدى هو قمة الطائفية أيها الشيخ المستنير.. ولكن دعك من هذا، أريد أن أسألك سؤالًا: ماذا تقول لغير المسلم عندما تقابله؟ هل تقول له: السلام عليكم، أم مساء الخير يا أستاذنا؟ وإذا قيل لك إن فلانًا الكتابى قد توفاه الله، فهل تترحم عليه وتقول: اللهم ارحمه؟
وأظنك ستضيف من عندك سؤالًا هو: ما حكم النصارى واليهود الذين ماتوا على دينهم ورفضوا الدخول إلى الإسلام؟ أين موضعهم فى الآخرة؟ نعم يا شيخ التراث، هل أصبحنا منشغلين إلى هذا الحد بموضع غيرنا فى الآخرة؟! فلننشغل بأنفسنا يا عم الشيخ، ابحث عن نفسك، هل ضَمِن الواحد منكم قصره الذى فى الجنة؟ ومع ذلك فالمسألة واضحة فى كتاب الله، فالإسلام هو التسليم لله، والله قال فى كتابه الكريم: «إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون»، هذا قول الله لا قولى أنا، الذين هادوا والنصارى والصابئون طالما أنهم آمنوا بالله واليوم الآخر فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون لأنهم فى معيّة الله.
أما عن القول بأن المسيحيين يؤمنون بألوهية المسيح ويقولون إن الله ثالث ثلاثة، فلا جدال وليس من شك أن وحدانية الله منزهة عن الاجتماع، والافتراق، والامتزاج بالناسوت، والحلول، سبحانه عن هذا وتعالى علوًا كبيرًا، ولكن هناك من ابتدع وهناك من اتبع، فالذى ابتدع وكان يعلم الحق ومع ذلك قال بالامتزاج بالناسوت والحلول فيه فهو الذى قال، وهو الذى ينطبق عليه قول الله تعالى: «لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة»، وقوله: «لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم»، إنما القائل هو القائل الأول الذى ابتدع أو القائل الذى يعرف ويخفى، ذلك هو الذى كفر، أما من اتبع ظنًا منه أن ما قيل له هو الحق فهو المقال له لا القائل، إنما الذنب على القائل لا المقال له.
ألم يتطرق إلى ذهنك لماذا قال الله تعالى: «لقد كفر الذين قالوا»، ولم يقل «لقد كفر النصارى»؟ الله سبحانه العادل لم يعمم لأنه العالِم أن هناك من قال وابتدع كفرًا، وهناك من قيل له فكرر القول ظنًا بأنه الحق، وسأضرب لك مثلًا يثلج صدرك يا شيخنا التراثى، أعرف أنك تحب الإمام أحمد بن حنبل، وتعرف قصته مع المعتصم بالله الذى كان معتزليًا، أى من فرقة عقائدية اسمها «المعتزلة»، وهذا الخليفة بعقيدته المعتزلية اعتبر أن ابن حنبل مشرك لأنه قال إن القرآن كلام الله وليس خلقًا لله، فقال المعتصم إن ابن حنبل جعل القرآن قديمًا فجعله مساويًا لله وندًا له! وأظنك أيها التراثى تعلم أن الاختلاف فى ذات الله حدث فى الإسلام نفسه، ولكن لتعلم أن هذا الاختلاف فى عقائد الناس هو اختلاف المحبين لا اختلاف الكارهين.. المسلم يحب الله وهو يبحث فى النصوص التى لديه ليتصور حبيبه، والمسيحيون أيضًا أحبوا الله واختلفوا فى تصوره، فلندع أمرهم إلى من أحبوه.
ولتأكيد معنى القائل والمُقال له، سأعود بك إلى ابن حنبل الذى تحبه، إذ حدث أن مر ابن حنبل ومعه جماعة من أصحابه بقبر رجل فى طرسوس، فقالوا له: هذا كافر، فقال أحمد: الكافر هو أول من بدأ بالقول وليس الذى قيل له فصدقه.
والآن لنعد إلى السؤال المفتتح لهذا المقال فى حوارى مع الشيخ التراثى فأقول له: هل تجيز أن نترحم على الأموات من أهل الكتاب؟.. يا تراثى أجاز الله لنا أن نتزوج منهم أفلا نترحم عليهم! يا شيخ إن رسالة الإسلام هى الرحمة والسلام، فكيف تحجب رسالة الإسلام الرحمة عن خلق الله، وهل يملك أحدنا أن يقسم رحمة الله وهو القائل: «أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم فى الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضًا سخريًا ورحمة ربك خير مما يجمعون».
وأين تذهبون يا شيوخ التراث من قول الله سبحانه وتعالى: «ورحمتى وسعت كل شىء»، وكلنا بمختلف عقائدنا شىء؟! وأين أنتم من قوله تعالى: «كتب ربكم على نفسه الرحمة»، وإذا أسلم رجل وظل أبواه على دينهما الكتابى أفلا يجوز له أن يترحم عليهما مصداقًا لقوله تعالى: «واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربيانى صغيرًا»؟ وأين تذهبون من حديث الرسول، صلى الله عليه وسلم: «الراحمون يرحمهم الرحمن»، وحديث: «إنما يرحم الله من عباده الرحماء»، والأحاديث هنا على عموم اللفظ مهما كان دين الرحماء، ولتعلم يا تراثى أن الله أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليكون رحمة للعالمين، وليس رحمة للمسلمين من دون الناس.
أما هذا الفهم الغريب المغلوط لقول الله سبحانه: «ما كان للنبى والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم»، فهذه آية عن المشركين وليست عن أهل الكتاب، وهى آية عن الاستغفار وليست عن الترحم، والمغفرة غير الرحمة، ولو كانت المغفرة هى الرحمة لما كانت لله الأسماء الحسنى، ويجب على كل صاحب نظر أن ينزه الله عن أنه يطلق على نفسه الأسماء المتشابهة، فالرحمن غير الرحيم والغفور غير الغافر والغفار، ولكل منها موضعه، إيه يا شيوخ هذا الزمن الغريب، لو تعلمون من هو الرسول، صلى الله عليه وسلم، ما خرجت منكم كلمة كره أو حرب أو شحناء، ولكنكم جهلتم قلبه الذى أنار الدنيا بالحب والرحمة، وغابت عنكم نورانيته وحبه لكل الخلق، حتى إنه رفض أن يدعو على كفار قريش، ورفض أن يخسف الله بهم الأرض ويطبق عليهم الأخشبين، أراكم تنقلون للناس ما فى قلوبكم أنتم، لا ما كان فى قلب الرسول، عليه الصلاة والسلام، تنقلون لهم بغضكم لا حبه، كراهيتكم لا سماحته، أمراض قلوبكم لا نور قلبه، الذى أنتم عليه ليس هو الإسلام الذى جاء به الرسول، ولكنه الإسلام الذى شوهته نفوسكم، وعاداتكم، وغروركم، وكبركم، وحقدكم.
لن أجد عندك ردًا أيها التراثى وأظنك ستقول وأنت تبدى التأفف: لقد علمنا الرسول، صلى الله عليه وسلم، ألا نلقى السلام على غير المسلمين.. يا شيخ التراث، كيف تكون رسالة السلام تحرّم السلام وتقصرها على المسلمين؟! السلام لكل الناس ما عدا المحاربين، لأن مجال الحرب لا سلام فيه، ولتنظر إلى آيات القرآن الكريم، وخذ منها السلام الذى يريح الخاطر ويطيب القلب واسمع لقوله تعالى: «سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّى»، وقوله تعالى: «وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا»، وقوله تعالى: «يا أيّها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم حتّى تستأنسوا وتسلّموا على أهلها»، ولفظا «بيوت» و«أهلها» هنا جاءا على العموم لا الخصوص.
أيها التراثى أصدقك القول، أنتم أمة «اقرأ» ولا تقرأون، وأمة «اعملوا» ولا تعملون، وأمة «يسروا» ولا تيسرون، وأمة عمِّروا ولا تعمِّرون، وأمة ارحموا ولا ترحمون.