رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

العفو يخليك من الذنوب ثم يحليك بالرضا والعطاء.. تطهير ثم تعطير تمامًا كما لو أنك أخذت كوبًا ملوثًا فنظفته جيدًا ثم ملأته عسلًا

يا عفو.. اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا «1-2»


من أسماء الله الحسنى، اسم الله «العفو»، ومعناه الذى يمحو السيئات، ويتجاوز عن المعاصى.. وهو اسم له خصوصية وصّى بها رسول الله، صلى الله عليه وسلم.. فعندما سألت السيدة عائشة النبى، صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أرأيت إن علمت أى ليلةٍ ليلةُ القدر ما أقول فيها؟ قال قولى: «اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عنى».
اسم الله العفو ورد ذكره فى القرآن الكريم خمس مرات، مرة مقترنًا باسم الله القادر «... إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا» (النساء: ١٤٩)، فقد أعفو عنك وأنا غير قادر عليك، لكن الله سبحانه قدير، قادر عليك، ومع قدرته عليك عفا عنك.. وأربع أخرى مقترنًا باسم الله الغفور «... إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا» (النساء: ٤٣)، «فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا» (النساء: ٩٩) ليريك الكرم، وليقول لك: يمكنك أخذ هذه المغفرة، ويمكنك أخذ الأكبر منها والمنزلة الأعلى وهى العفو.
ما معنى اسم الله العفو؟
كلمة «عفا» لغويًا فى المعجم لها معنيان:
العفو: الإزالة، يقولون: عَفَت الريح الآثار: أزالتها ومسحتها، ومنها ما ورد فى السيرة فى رحلة الهجرة، لما صعد النبى، صلى الله عليه وسلم، إلى غار ثور ومعه أبوبكر، وكانت أسماء بنت أبى بكر تأتيهما بالطعام، فأمر أبوبكر غلامه بأن يمر بالغنم على آثار أقدام أسماء حتى لا يعرف الكفار طريق النبى، فتجد الرواية فى السيرة: «فأمر غلامه أن يعفو آثار أسماء بنت أبى بكر».
كيف يمحو ويعفو؟
ينسيك الذنب، وينسيه للملائكة، والملَك الذى يكتب السيئات، ويُمحَى من صحيفة السيئات، وتأتى يوم القيامة لا يذكّرك به ولا يسألك عنه.. أنت لم تخطئ.. «وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ» (ق: ٢١)، فحتى الملَك لا يذكر هذا الذنب، وإن كان كبيرًا وفاضحًا.. ما دام الله عفاه عنك بليلة القدر فالكل سينساه: «اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا» (الإسراء: ١٤) فتجد ذنوبًا موجودة فى كتابك وقد غُفرت، لكن هذا الذنب غير موجود لأنه عُفى.. أرأيت إن عفا كل ما مضى؟! كانت صفحة بيضاء وكأن صاحبها نقى منذ وُلِد إلى أن مات.
«الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ» (يس: ٦٥)، يشهدون على ذنب قبله وذنب بعده، ولا ينطقون بهذا الذنب لأنه عُفى عنه، قد تذكره فى الدنيا ويؤرقك لسنوات، لكن فى رمضان عُفى عنك! فحين نموت تفنى أجسادنا ورءوسنا وتفنى معها الذاكرة، ثم نقوم يوم القيامة بذاكرة جديدة نقية مُحى منها ما قد عفى عنه فلا يذكره أحد «اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنى».
أعطيتُه من مالى عفوًا: أى أعطيته شيئًا طيبًا من حلال مالى، عن رضا نفس، دون أن يسأل «... يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ...» (البقرة: ٢١٩)، وهذا أفضل ما تنفقون من مالكم.
ثلاثة أمور فى اسم الله العفو: يزيل ويمحو، ثم يرضى، ثم يعطى، فهو سبحانه أزال وطمس ومحا ذنوب عباده وآثارها، ثم رضى عنهم، ثم أعطاهم بعد الرضا عفوًا دون سؤال منهم.. لعلك بهذا فهمت المراد باسم الله العفو، والمراد من هذه المقالات أن تفهم، وتعيش، وتحب، أن ننتقل من الكلام إلى الوجدان، من منزلة اللسان إلى منزلة الإحسان «أن تعبد الله كأنك تراه».
تخلية وتحلية: العفو يشمل هذين المعنيين، فالعفو يخليك من الذنوب، ثم يحليك بالرضا والعطاء.. تطهير ثم تعطير، تمامًا كما لو أنك أخذت كوبًا ملوثًا فنظفته جيدًا، ثم ملأته عسلًا.. لِمَ كل هذا؟ لأنه يحبك، يتودد إليك، يريد أن يرحمك فأنت أغلى الخلق على الأرض «... إِنِّى جَاعِلٌ فِى الأَرْضِ خَلِيفَةً...» (البقرة: ٣٠)، خلق الجنة من أجلك، يقول لك: ألا تستحى منى؟! أستحى أن أعذبك ولا تستحى أن تعصانى؟ أعفو عنك ولا تأتينى؟ ماذا لو عفا عنك؟ لو عفا عنك فلا بد أن يعطيك هذه الثلاثة: يمحو آثار الذنوب، ثم يرضى عنك، ثم يعطيك عطاء حلالًا يسعدك ويرضيك دون أن تسأل، وبالتالى فالليلة ليلة هذه الثلاثة، فاجتهدوا.. هذه الليلة يجب أن يمتلئ قلبك بحب الله.