رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حكايات صغيرة لليلة رأس السنة


أستأذن القارئ ونحن على أعتاب رأس سنة جديدة أن أخلع حقيبة الذكريات عن ظهرى لأفتش بين صورها عن بسمة وأمل، وعن حكايات صغيرة تنطوى على ضحكة وتفاؤل ندخل بها العام الجديد.
أفتش فأرى هذه الصورة: كانت والدتى شفيقة رشدى تعانى من مياه بيضاء على عينيها تكاد لا ترى بسببها، وذات يوم تكاسل أخى الحبيب عبدالرحمن عن الذهاب إلى الحلاق وسألها: «ماما.. ممكن تحلقى لى شعرى؟». وكان من طبعها إذا سألتها أن تقوم بأى عمل حتى لو كان فك وتركيب صاروخ أثناء تحليقه فى الفضاء أن تقول لك بثقة وهدوء ودون أدنى تردد: «طبعًا يا ابنى أنا طول عمرى فى موضوع الفضاء ده»!
هكذا جلس أخى عبده تحت نور شباك الصالة مسلمًا نفسه لها بعد أن وضعت فوطة حول رقبته مثلما يفعل كبار الحلاقين، ضربتان أو ثلاث بالمقص لا أكثر، انتبه الغلبان بعدها فنهض مذعورًا ينفض الفوطة عن نفسه: «يا نهار إسود يا ماما! إيه ده؟! أنا بقيت أقرع!».. تمتمت بهدوء وثقة الواثقين من عملهم: «ده طبيعى يا ابنى، لأن والدك كان أقرع، ودى الوراثة»! صاح بها مدهوشًا: «بس أنا ما كانش عندى وراثة من دقيقتين!».. وانتبهنا جميعًا فضحكنا وصحنا به: «يا ابنى أمك لا ترى»، فعارضتنا بحكمة الأمومة وحنانها: «مش موضوع رؤية، لأ، هو واخد من أبوه حاجات كتير».
أفتش فأرى كيف كان بيتنا مفتوحًا لكل من هب ودب، حتى إننى كنت أرجع من الجامعة فأجد أحيانًا أشخاصًا لا أعرفهم فى الصالة يديرون حوارًا بينهم براحتهم، وآخرين فى المطبخ لم تسبق لى رؤيتهم قط، وكان بعضهم إذا رآنى تصورنى ضيفًا غريبًا فيسألنى مشكورًا: «أنا باعمل شاى، أعملك معايا؟»، وكان البعض، خاصة من المبدعين، يحتلون مكتبى فى حجرتى ويسرحون بعيونهم فى السقف ويكتبون قصائدهم من دون أن يلتفتوا إلىّ.
فى هذه الزحمة لم يكن الأمر يخلو من السرقات الخفيفة، ولم يكن من السهل أن تعرف من هو اللص فى تلك الحشود الجماهيرية، لكن التناقص المستمر فى المواد التموينية بالمطبخ لفت نظرنا إلى سعدية الشغالة عندنا، فاشتكت أمى لأبى: «البنت دى حرامية، شوف لك طريقة معاها»، استوثق أبى بدهشة: «حرامية؟»، أجابته أمى: «أكيد، السكر بينقص، والشاى، والسمن»، هز والدى رأسه قائلًا بتأثر: «أخيرًا وجدت فيها شيئًا ممكن أحترمه».
مصمصت أمى شفتيها بتعجب، فراح أبى يوضح لها فكرته: «طبعًا، امرأة كهذه عندها ثلاثة أطفال يتامى، فإذا لم تسرق لأجلهم فإنها إذن عديمة الهمة والشجاعة»!.. ظُهر اليوم التالى استدعى أبى سعدية إلى حجرة مكتبه وقال لها: «سعدية أنا لىّ عندك طلب؟» قالت بأدب: «تؤمر»، قال لها: «دلوقت أنا عاوزك تاخدينى شريك معاكى، النُص بالنص».
تساءلت باستغراب: «شريك فى إيه العفو؟»، قال مبتسمًا بطيبة: «يعنى لما تدخلى المطبخ وتلاقى اتنين كيلو سكر، خدى واحد لكِ، وسيبى واحد لىّ.. النص بالنص يعنى، لقيت باكو شاى نصه لكِ والنص لىّ»، ارتفع صوت سعدية ببكاء مكذوب: «ده كلام يا أستاذ خميسى؟ يعنى أنا حرامية؟»، قال لها: «لأ مش حرامية، أنا باعرض عليك مشروع مربح نعمله إحنا الاتنين، بس مش أكتر، فكرى وردى عليا»!
أفتش فى الذاكرة، وأرى صورًا كثيرة ضاحكة، من الطفولة والصبا والشباب، وأقوم بضخ الدماء فى الوجوه التى اختفت، والأحداث التى توارت، وأضخ الأصوات والقهقهات فى الحناجر التى رحلت، وليخلع كل منا حقيبة ذكرياته من على ظهره، ويفتش فيها عن كل ما هو جميل وإنسانى، لأنى أتمنى أن نضع جميعنا أقدامنا فى العام الجديد بفرح، وأمل، حتى لو كان الأمل وهمًا، فإذا لم يتحقق شىء مما كنا نحلم به فسوف يسعدنا أننا شعرنا على طرف اللسان بحلاوة الأمنية وطعم الأمل.. وبذلك الصدد يقول المتنبى: «مُنى إن تكن حقًا تكن أسعد المُنى.. وإلا فقد عشنا بها زمنًا رغدًا»، أى أنها أمنيات لو تحققت لكان ذلك رائعًا، فإن لم تتحقق فإننا سنكون قد عشنا بها زمنًا حلوًا.
فلنفتح باب العام الجديد، وندخل مسلحين بكل الحكايات الصغيرة المضحكة من حقائب الذكريات، ومسلحين بوجوه الأحباء جميعًا، من رحلوا منهم، ومن ما زال يواصل السير بجوارنا.