رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«فريد».. حكاية غرامى وأول همسة وقسمة مكتوبة




أتأمل صفحة الزمان. مرت سريعة، منذ أن تدفق «فريد»، من قلب الجبل، إلى قلب الحياة، إلى قلبى، إلى قلب الرحيل «٢١ أبريل ١٩١٠- ٢٦ ديسمبر ١٩٧٤». يخطئ مَن يعتقد، أننى فى ذكرى رحيله الـ٤٦، أتذكره. حينما نتذكر شخصًا، يعنى هذا أنه أصبح فعلًا، فى طى النسيان.
«فريد» رجل «عنيد»، لا يعطينى فرصة، هو طوال السنة «حاضر» فى دمى، مقيم فى وجدانى، ملتف حول خلايا الذاكرة.. ألم يكن معروفًا بالكرم النادر؟!.
يخطئ أيضًا، منْ يتصور، أننى سوف أحكى، عن «فريد»، أو أكشف خباياه، وأتلصص على سيرته الذاتية، أو أسرد حقائق عن نبوغ واستثنائية موهبته المرموقة، هذه ليست مهمتى، هناك الكثير، والمتنوع، من المطبوعات، والمؤلفات، التى شرفت بهذا الدور.
كما أن «فريد»، وهذا جزء من تفرده، لا يمكن أن تسجنه صفحات الكتب، وشاشات الإنترنت. هل هناك «بحر» يمكن أن يُسجن؟!.
مهمتى أنا أصعب، أحاول أن أفك الشفرات التى تربطنى بـ«فريد»، منذ طفولتى، أحاول اكتشاف لماذا إذا فات يوم، دون أن أستمع إليه، لا أحسبه من عمرى، كيف تضبط موسيقاه كيمياء مخى، وتنقى دمى، تمحو العبث، تهزم اللاجدوى، وتعدل مزاجى، وتنظم أنفاسى، ودقات قلبى؟!.
ولماذا تتآمر ضدى عائلة «الأطرش»، فتأتى أخته «أسمهان» فتنهى ما بدأه الأخ، وتكمل على بقيتى، بالشجن اللذيذ الذى يبكينى، البكاء الذى أنتظره منذ ألف عام.
أنا، التى لا تنام إلا على وسادة السكون، وإيقاعات الصمت، يأتينى النوم، سلسًا، حنونًا، ناعمًا، إذ يغنى «فريد»: «تصبح على خير يا حبيبى أنت من الدنيا نصيبى»، وتكفينى أغنيته «يا مالكة القلب فى إيدك ده عيد الدنيا يوم عيدك»، تأليف صالح جودت، لتكون رفيقتى الحميمة الوحيدة فى يوم ميلادى، صباحًا، وفى المساء تحفته البديعة «عدت يا يوم مولدى»، تأليف كامل الشناوى، تختم ليلة ميلادى.
«نجوم الليل».. «وحياة عينيكى».. «الحب عز وهنا».. «القلب قلبى والحب حبى».. «حكاية غرامى».. «مين يعرف».. «سألنى الليل».. «يا حبيبى طال غيابك.. «أهوى».. «حبيب العمر».. «أنا كنت فاكرك ملاك».. «أول همسة».. «يا زهرة فى خيالى».. «الربيع».. «مخاصمك يا قلبى».. «لحن الخلود».. «ودعت حبك».... «أحبابنا يا عين».. «إياك من حبى».. «لو تسمعنى لآخر مرة».. «إيه فايدة قلبى».. «يفيد بإيه الأنين».. «عش أنت».. «قالتلى بكرة».. «كفاية يا عين».. «قسمة مكتوبة».. ولا ننسى «ليالى الأنس فى فيينا» تأليف أحمد رامى، وختمت بها أسمهان حياتها القصيرة، لحن يتربع على عرش الألحان الدرامية الصعبة ذات الأبعاد متنوعة التخيل والمشاعر.
هذه بعض من الجواهر التى تركها «فريد»، من أسرار «فريد»، أنه كان يعيش لحظات الفرح، بكثافة، وشغف، وإخلاص، كما يعيش لحظات الحزن والأسى.
اسم «فريد»، يتناغم تمامًا، مع شخصية «فريد». كان فريدًا فى موهبته، وفريدًا فى وحدته، وفريدًا فى كرمه، وفريدًا فى رهافة مشاعره، وفريدًا فى أحزانه، وفريدًا فى عزفه على العود، وفريدًا فى عزوفه عن الملذات الزائلة، وفريدًا فى إهمال صحته، وفريدًا فى علاقته بالنساء، وفريدًا فى عشقه للبحر، وفريدًا فى ملله السريع من الأشياء.
«فريد» الوحيد الذى غنى للسابحات الفاتنات، المستمتعات بالماء. فأنا سباحة ماهرة، وأمارسها يوميًا لمدة طويلة، على مدار العام. كلما منحت جسمى للماء، يأتينى صوت «فريد» بلحن متموج كالماء، ليس له مثيل، ومن كلمات عبدالعزيز سلام: «يا فرحة المية بالحسن والخفة لأجل العيون ديا سلمت أنا الدفة».
ترك لنا «فريد» ٣١ فيلمًا سينمائيًا، بين الدراما، والاستعراضات الغنائية الفاخرة، والقصص المترجمة من الأدب العالمى. كلها يحترم العقل والعاطفة والمزاج الموسيقى الأصيل الذى يجرب ويجدد. وفى بعضها كوميديا راقية من الطراز الرفيع.
٢٦ ديسمبر ٢٠٢٠، ذكرى الرحيل الـ٤٦، لا أملك إلا كلمات نزعتها من حنايا قلبى، أهديها إليك يا «فريد»، قبل بدايات عام جديد. أنت الوحيد الذى أئتمنه على الباقى من عمرى. وأشكر الأم الأميرة «علياء المنذر»، التى حملتك فى أحشائها، وفى حنجرتها الذهبية، وتكبدت المشاق للحفاظ عليك، وعلى أسمهان، أسطورتان من رحم واحد، تؤنسان وحدتى، وعواطفى اليائسة.