رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هدى العجيمى.. مع الأدباء الشبان



مثل مئات ممن ينتسبون لعالم الكتابة والأدب، عرفت صوتها الهادئ الدافئ الرزين عبر برنامجها الإذاعى «مع الأدباء الشبان»، فمن لم يحلُم بأن يكون ضيفًا للإذاعية الكبيرة «هدى العجيمى»، لكن القدر لم يتح لى أن أكون أديبة شابة فى برنامجها، حيث توقف البرنامج فى عام ١٩٩٦ مع خروج صاحبته للمعاش، بعد استمراره قرابة ٢٥ عامًا. ورغم ظهور العديد من البرامج الإذاعية والتليفزيونية التى تناقش الأعمال الأدبية للمبدعين الجدد، فإن أيًا منها لم يحظ بتأثير وعمق واستمرارية «مع الأدباء الشبان»، لأنه استطاع من خلال جهد مقدمته أن يقدم المواهب الشابة الواعدة فى مدنهم وقراهم، وأتاح الفرصة لتقديم إبداعاتهم الشعرية والقصصية والروائية مباشرة ودون وسيط، وهذا هو سر نجاح البرنامج: نشر ديمقراطية الإبداع وابتعاده عن مركزية الثقافة فى العاصمة.
يبدو أن نجاح البرنامج الكبير طغى على كل ما قدمته الإذاعية الكبيرة «هدى العجيمى» من برامج قدمتها عبر مسيرتها الإذاعية، التى بدأت بعد حصولها على ليسانس الآداب قسم اللغة العربية والتحاقها بالإذاعة فى بداية الستينيات كمحررة بالأخبار فى قسم الاستماع السياسى، ثم تعيينها مذيعة بقسم المنوعات فى البرنامج العام، تحت رئاسة الإذاعية صفية المهندس، التى اختارتها مساعدة لها فى برنامج «ربات البيوت» وأسندت إليها إخراج أطول مسلسل إذاعى وهو «عيلة مرزوق أفندى».
مسيرة طويلة وحافلة وذكريات عامرة بالحياة عاشتها الإذاعية هدى العجيمى سجلتها بين دفتى كتاب صدر حديثًا بعنوان «الإذاعة المصرية.. قصة عشق».
يتميز الكتاب بسلاسة ورشاقة العبارة وتدفق وتنوع المواقف المعيشية التى تلقى الضوء على فترة اتسمت بالخصب والغنى فى كل مناحى الحياة الثقافية المصرية.. وتحكى العجيمى بصدق وصراحة، ما يمكن اعتباره دروسًا يستفيد منها كل من يهتم بالعمل الإعلامى، عن خطأ ارتكبته فى بداية عملها بقسم الاستماع السياسى، ولم تكن المتابعة الإخبارية لما تقدمه الإذاعات المعادية لمصر عملًا يرضى طموح المذيعة الشابة، فأخطأت فى كتابة اسم مدينة لم تستمع لاسمها جيدًا عبر المذياع فتصورتها مدينة أخرى، ووضعت لها اسمًا من عندها وكان الخبر يتركز حول هذه المدينة، وأذيع الخبر فى نشرة الأخبار فتسبب ذلك فى فضيحة إخبارية، فتحملت التعنيف والخصم من راتبها وهى تلوم نفسها على طريقة «الفهلوة» التى اتبعتها وتعلمت احترام أى عمل مهما كان صغيرًا.
فى كتابها تعطى لنا لمحة عن روح العصر، وكيف كانت القيم الأخلاقية مثل الجمال والسمو هى السائدة، فتحكى كيف أنها خجلت من أن تقرأ فقرة من برنامج «إلى ربات البيوت» كتبها الكاتب الساخر محمد عفيفى بعنوان «طرائف وحكايات»، وكانت الفقرة تركز على الطرائف التى تحدث فى الحياة الاجتماعية، ويقدم الحوارات بين الزوج وزوجته أو الزوجة وحماتها إلى آخره، وعندما قرأت الفقرة رفضت أن تسردها لمستمعاتها أمام الميكروفون.
وكانت الفقرة عبارة عن حوار بين قاضٍ وزوجة أقامت دعوى طلاق ضد زوجها الذى لم يتكلم معها طوال فترة زواجهما إلا عددًا قليلًا من المرات، وعندما سألها القاضى عن عدد المرات التى كلمها فيها الزوج، قالت: ثلاث مرات، فسألها القاضى عن عدد أولادها الذين أنجبتهم منه فقالت: ثلاثة.
هذا الحياء والاختيار الواعى لما يقال وما لا يقال للمستمعين يعبر عن روح هذه الفترة فى مقابل كم السخف والإيحاءات التى تمتلأ بها برامجنا الآن.
كما تروى «هدى العجيمى» فى كتابها ما يدل على الحساسية الشديدة والاهتمام الكبير بأحوال المستمعين، حتى فى أبسط التفاصيل، فقد كان برنامج «ربات البيوت» يقدم وصفات صحية لمساعدة المرأة المصرية فى تقديم مأكولات صحية وشهية لأسرتها، تحكى: كنا نقدم أطباقًا شهية، مثلًا نقول أحضرى فرختين ونظفيهما، ثم بعد عدد من السنين بدأت الصحف تهاجم البرنامج على هذا الإسراف بعد أن تغيرت الحياة الاقتصادية وزحف الغلاء على مصروف الأسرة المصرية فى نهاية الستينيات، فأصبحنا ننصح بفرخة واحدة فقط.
فأين هذه الرؤية مما يحدث الآن من انتشار قنوات كاملة وبرامج متخصصة للطهى، تقدم ما لا يراعى الظروف الاقتصادية وتزرع تطلعات استهلاكية وبذخًا لا مردود له سوى سخط الناس على حياتهم وتزايد نقمتهم رغم كثرة ما فى يدهم.
يمتلئ الكتاب بالذكريات التى تمتد من شارع علوى والشريفين وماسبيرو بالقاهرة إلى شارع «أونتر دون لندن» وترجمته بالعربية «تحت ظلال الزيزفون» فى برلين، حيث سافرت فى منحة تدريبية عام ١٩٧١.
كما يحفل بالمواقف الإنسانية المضيئة مع أساطير الإذاعة «محمد محمود شعبان (بابا شارو)، صفية المهندس، الشاعر أحمد رامى»، ورفاق الرحلة الملهمة «عواطف البدرى، سميرة الديب، سامية صادق، مأمون أبوشوشة، فتحى عبدالله» وغيرهم كثيرين.
سبق للأستاذة هدى العجيمى أن قدمت للمكتبة العربية كتاب «رؤى نقدية» سنة ٢٠٠٣، قدمت فيه بعضًا من الحوارات التى دارت فى برنامجها للأساتذة والأدباء الكبار «يحيى حقى، نجيب محفوظ، صلاح عبدالصبور».
فتحية محبة وتقدير لصاحبة «مع الأدباء الشبان»، ومزيد من التقدير لما خصت به القارئ من مشاهدات وذكريات تسجل قصة عشق للإذاعة المصرية.