رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كوارث.. وأرباح!




فى كتابها البالغ الأهمية، «عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث»، أفاضت الباحثة والمؤلفة، «نعومى كلاين»، عبر ما يقرب من ٧٥٠ صفحة من القطع الكبير، فى شرح عقيدة أو نظرية ومنهج عمل النظم الرأسمالية الاحتكارية المتوحشة، المعولمة، فى ظل المبادئ «النيوليبرالية» التى طغت على العالم فى عقوده الأخيرة.
وقد شرحت كيف استغلت الرأسمالية المتوحشة المُعاصرة، كل الكوارث الطبيعية التى تعرَّضت لها البشرية، كالزلازل والأعاصير والنوائب البيئية، أو اصطنعت «كوارثها الخاصة»، كالانقلابات الدموية، والصراعات الدينية والعرقية، وغيرها من الأشكال، لدفع مئات الملايين من البشر، الذين وُضعوا، أو تم وضعهم، فى حالة كابوسية مُفزعة، بحيث يُفقدهم الوضع كل قدرة لديهم على مقاومة خطط «لبرلة» كل أشكال الاقتصاد، ومحو كل صور الدور الاجتماعى للدولة فى التعليم والصحة والخدمات المهمة، وبما يُسهِّل كتابة «صفحة جديدة» فى السلوك والوعى الجمعى للملايين، وكأنها ديانة وثنية جديدة.. إلاهها هو المال، وكعبتها هى الربح، وأرضها المُقدسة هى مدينة «شيكاغو» الأمريكية، حيث ترعرعت هذه الأفكار وتبلورت فى مدرستها الاقتصادية، وأعدَّت تلاميذها الذين علمهم «نبيهم» المختار «العراب» أو «الأب الروحى» لـ«رأسمالية الكوارث»، عالم الاقتصاد الأمريكى «ميلتون فريدمان»، أبرز مُنظِّرى «مدرسة شيكاغو للاقتصاد»، ووزعهم على جميع الدول من تشيلى للإشراف على انقلاب الجنرال «بينوشيه» الدموى، إلى الاتحاد السوفيتى السابق، للإشراف على تدمير منجزات العهد الاشتراكى وما أكثرها، إلى دولة العراق لاستكمال عملية «تحريرها»، أى إتمام تدميرها، وإلى عشرات البلدان فى مشارق الأرض ومغاربها، لكى يعلى من مبدئه الأشهر: «إن تاريخ السوق الحرة المعاصرة، أو صعود الشركات بشكل أوضح، قد كتب بالصدمات والكوارث».
وما حدث خلال شهور عامنا الحالى الذى يوشك على الرحيل، أكبر دليل على نجاعة هذا المنهج، وشراسته، ولاإنسانيته، وهو يبدو أمامنا جليًا بالغ الوضوح.
ففى ظل جائحة «كوفيد-١٩»، التى ضربت بسهمها الغادر مليارات البشر فى كل أنحاء المعمورة، حيث الموت والإغلاق والخراب ومئات الآلاف الفزعة التى احتجزت فى المطارات والموانئ، والملايين الهلعة التى اصطفت للحصول على وجبة طعام مجانية فى أغنى دول العالم، والارتباك الشديد فى مواجهة هذا العدو الغامض الذى أخذهم بغتة، ورائحة الموت التى حلقت فى الآفاق، والتخبط فى سياسات أكبر الدول وانكشافها.. إلخ، فى ظل هذه المأساة المرعبة التى لم ينج منها بلد واحد فى كل الأرجاء، كان هناك على الطرف الآخر من يفرك يديه فرحًا، وتعلو الابتسامة وجهه سعادة ورضا، حيث اعتصرت هذه المأساة الكونية دماء البشرية المرتعبة، لكى تصبها فى صورة مئات المليارات من الدولارات، فى خزائن كبار رجال المال والأعمال، الذين استفادوا من أجوائها السوداوية أيما استفادة.
ومن الطبيعى أن يكون من بين الرابحين شركات تصنيع الأدوية، خاصة تلك التى تتسابق لتصنيع لقاح «كوفيد-١٩»، وشركات المستلزمات الطبية كالكمامات، ووسائل التطهير، وأجهزة التنفس، وغيرها، لكن كان على رأس قائمة المستفيدين، وبفارق كبير، ملاك المؤسسات التكنولوجية المتطورة العملاقة، حيث بلغت القيمة السوقية لبضع شركات كبرى، منها «آبل»، و«مايكروسوفت»، و«أمازون»، و«ألفا بيت»، ٦.٥ تريليون دولار!، وبما يوازى ربع قيمة أكبر ٥٠٠ شركة عالمية، وقد نشرت مجلة «فوربس» الأمريكية أن عشرة رجال حول العالم جمعوا نصف تريليون دولار على مدى الأشهر التسعة الماضية، منهم «جيف بيزوس»، مؤسس ورئيس شركة «أمازون»، و«إيلون ماسك»، مؤسس ورئيس شركة «تيسلا» للسيارات الكهربائية، و«بيل جيتس» المؤسس المُشارك لـ«مايكروسوفت»، و«مارك زوكربيرج» مؤسس «فيسبوك»، و«لارى بيج» مؤسس «جوجل».. إلخ!
ومن الواضح أن الجانب الرئيسى من الأرباح الخرافية الناجمة عن جائحة «كورونا» اتجه لصالح شركات الاتصالات والتواصل التكنولوجى المنتشرة فى جميع أنحاء العالم، حيث احتاج مئات الملايين لاستخدام وسائطها بعد أن منعتهم الجائحة من الخروج والانتقال، لإنجاز الأعمال، أو للاطمئنان على الأهل والأصدقاء، أو لاقتضاء الحاجات!
فتطبيق «Zoom»، على سبيل المثال، زاد عدد مستخدميه، يوميًا، من ١٠ ملايين فى ديسمبر ٢٠١٩ إلى ٢٠٠ مليون بعد انتشار الوباء، مما رفع وضع مُبتكره، «إريك يوان»، إلى موقع أحد أغنى أغنياء العالم الـ٥٠٠، بين عشية وضحاها، واستقطبت شركة «نتفليكس» ٢٦ مليون مشترك جديد، بعد الجائحة.
ويقول عالم الاقتصاد «إد ياردينى»، إن هذه الشركات: «هى من أكبر المستفيدين من الأزمة الاقتصادية الناجمة عن الجائحة، وستستمر، على الأرجح، فى الاستفادة من الاضطرابات حتى بعد حل الأزمة»، إذ «كلما أصبح العمل والتعليم والترفيه نشاطات تُمارس من المنزل، ازدهرت هذه الشركات».. أى جنت أرباحًا لا حدود لها ولا نهاية، وكلما طالت حبستنا، وازدادت عزلتنا، و«انفقعت مرارتنا»، ونحن بلا حول ولا طول، نودع كل يوم أرتالًا من الأهل والأحباب، كبارًا وصغارًا، بلا عودة، إلى مثواهم الأخير.